جاسر عودة

انقسم علماء الإسلام على مدار التاريخ في تعاملهم مع ظاهرة الاستبداد – في ما يبدو لي – إلى ثلاثة أقسام نطلق عليها هنا: علماء السلطة، وعلماء المعارضة، وعلماء الثورة، وهذه الأقسام هي هي لم تتغير منذ بدأ عصر الاستبداد بالقضاء على الخلافة الراشدة، إلى يومنا هذا.

فقد كانت مقاليد السلطة السياسية في عصر الخلافة الراشدة في يد علماء الأمة، ذلك لأن الخلفاء الراشدين كانوا هم أنفسهم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يُختارون ويحكمون بناء على قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي علمهم بكتاب الله والسنة وتحاكمهم إليهما. وكان الوزراء والولاة الذين عاونوا الخلفاء الراشدين في ذلك العصر في عمومهم من علماء الصحابة والتابعين. في ذلك العصر لم يكن هناك انفصال ولا صراع ولا إشكال بين (العلم) و(الإمارة)، ولا بين (العلماء) و(الأمراء).

ثم لما بدأ عصر الاستبداد بقضاء الإمبراطورية الأموية على الخلافة الراشدة، وتولية أمور المسلمين بناء على معايير النسب والميراث والسيف، لا معايير العلم والمصلحة والشورى، هنا حدث الفصام التاريخي بين (الأمراء) و(العلماء)، وتتابع على ولاية أمور المسلمين أمراء لبسوا ألقاب وأثواب خلافة رسول الله زوراً، رغم أنهم لم يكونوا من أهل العلم ولا من أهل الرأي بل ولا من أهل الإيمان أحياناً. منذ ذلك العصر – وإلى يومنا هذا – رسخ في تصورات الأمة أن (الأمير) غير (العالم)، وأن الأمير وظيفته أن (يحكم) و(يسوس) و(يقرر)، والعالم وظيفته أن (يفتي) و(يشير) و(يعظ).

وانقسم العلماء منذ ذلك الزمان في تعاملهم مع الاستبداد إلى ثلاثة أقسام: قسمان على طرفي نقيض وقسم بين بين. أما طرفا النقيض فهما بين قسم من العلماء يلتحم بالسلطة المستبدة ويصبح جزءاً من منظومتها وفقاً لمصالح معينة بعضها شخصي وبعضها للصالح العام، وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم علماء السلطة، وبين قسم يثور على السلطة المستبدة وينفصل عنها شعورياً ومكانياً ويدخل معها في صراع مفتوح، وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم علماء الثورة. وأما القسم الثالث فهو نوع من العلماء لهم تأثير واضح وتلاميذ كثر، ولكنهم لا يخضعون تماماً للسلطة ولا يخرجون تماماً عليها. هؤلاء هم علماء المعارضة الذين يقضون حياتهم مع الاستبداد بين شد وجذب وكر وفر. ولنضرب أمثلة سريعة للتوضيح.

علماء السلطة هم من أهل العلم في الأمة بلا ريب، ولكنهم رأوا أن عملهم مع السلطة الواقعية (المتغلبة) ولو كانت مستبدة فيه خير لهم وللدين. ابن شهاب الزهري مثلاً كان من علماء الإمبراطورية الأموية وكان فقيراً معدماً قبل أن يختار ليعمل في قصر عبد الملك بن مروان (ملازماً لبابه) على حد تعبير الذهبي في سير أعلام النبلاء، بل إن ابن شهاب يروي بنفسه أن مسؤول ما سماه (الرزق) عند الخليفة نهره نهراً شديداً حين تخلف يوماً أو يومين فلم يعد لها، ولكن ابن شهاب أيضاً خدم الإسلام بكثير من روايات الحديث الصحيحة التي رواها وجمعها في كتب قيمة، خاصة حين عمل لاحقاً مع الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه.

وهشام بن عروة مثال ثان لعلماء السلطة الذين لهم فضل في الإسلام رغم دخولهم في منظومة الاستبداد وخدمتهم لها، إذ كان يستدين ليقضي حاجاته (ثقة بالله وبأمير المؤمنين) على حد تعبيره هو حين ذهب إلى أبي جعفر المنصور الخليفة وأراد أن يقبل يده – لولا رفض أبي جعفر – ليقضي عنه دينه، والقصة وغيرها في تاريخ بغداد.

أما في عصرنا، فعالم السلطة (مجرد موظف) على حد التعبير الذي سمعته من أحد العلماء الكبار منذ سنوات، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يعارض سياسات المستبد ولا أن يصدع بالحق وإلا عرّض وظيفته أو حتى حياته للخطر، ولكنه على أي حال يسعى في حدود المساحات المتاحة لخدمة الإسلام والمسلمين بقبول وزارة أو منصب في حكومات الاستبداد والعمل للإسلام من خلال ذلك المنصب في حدود السلطات المتاحة له ومن خلال المنابر التي يسمح بها المستبد. ولهذا يسعى الاستبداد للقضاء على الأوقاف والمؤسسات المدنية، والتي كانت في الماضي تعطي هؤلاء العلماء حريتهم واستقلاليتهم.

وأما علماء الثورة فسيدهم سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومن تبع هذا الطريق الوعر بإحسان من سعيد بن جبير وعبد الله بن الزبير ومحمد النفس الزكية، إلى يومنا هذا. هؤلاء لا يرون مساحة للتفاهم ولا التعاون مع السلطة المستبدة بل يرون مفاصلتها والصدع بالحق في مجابهتها ولو كلفهم ذلك حياتهم. وفي عصرنا هذا هؤلاء هم العلماء الذين أعدمتهم أنظمة الاستبداد أو الاستعمار في كل بقاع العالم المعاصر، كعمر المختار وعز الدين القسام وعبد القادر عودة وسيد قطب، وغيرهم كثير، معروفين ومجهولين.

وأما العلماء (المعارضون) فهم دائماً في صراع مع الاستبداد وبين شد وجذب، ولكنهم لا يفتؤون يرتحلون من نفوذ سلطة إلى أخرى بحثاً عن مساحة للحركة وسقفاً أعلى للتأثير، يدخلون السجن ويخرجون، يتهمون ويكرّمون، يتكلمون ويجبرون على الصمت، ولكن كلاً منهم يحاول من خلال مسيرة حياة معقدة أن يخدم الدين ويقيم أركانه ويحافظ على معالمه، وهؤلاء هم سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام وأغلب العلماء الذين نعرفهم من تاريخنا القديم، وهم أيضاً كثر في عصرنا الحاضر، وكل يعمل على شاكلته.

أما الأدعياء الذين ينضمون زوراً لأي من هذه الفرق الثلاثة، فليس الحديث هنا عنهم. فبعض علماء السلطة هم مجرد أدعياء للعلم في حقيقتهم وهم أصلاً عملاء للأجهزة الأمنية، كل همهم هو التكسب وتحقيق المصالح الشخصية، وهؤلاء ليس لهم من الخير نصيب والله أعلم بهم. وبعض علماء الثورة ومدعي الجهاد أيضاً أدعياء أو جهلة يضرون أكثر مما ينفعون، وبعضهم كذلك عملاء للأجهزة الأمنية ينفذون خططها المركبة من أجل وأد الجهاد الحقيقي والتخلص من الشباب المخلص الواعي. وبعض علماء المعارضة كذلك يلعبون لعبة السياسة لمصالح خاصة، يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة.

وأما من انضم صادقاً لأي من هذه المواقف الثلاثة من علماء الأمة فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. ولكن على العالم الذي يقبل أن ينضم ويتعاون مع نظم الاستبداد لمصلحة ما يراها وللتعامل مع واقع معين، عليه أن يعلم أنه على خطر عظيم، وأن يراجع نيته باستمرار ولا تغره الدنيا وزخارفها، وأن يحفظ على نفسه دينه وعلى الناس دينهم، وأن لا يقول كلمة الباطل إذا لم يستطع أن يقول كلمة الحق، وأن لا يظلم أو يعين على ظلم، ولا يقتل ولا يعين على قتل، ولا يسرق أموال المسلمين ولا يعين على سرقتها، وأن يستثمر قربه من الساسة ومنصبه الرسمي ما استطاع لذلك سبيلاً لكي يدعم قضايا الإسلام ويرفع الظلم عن المظلومين.

وعلى العالم الذي يختار المفاصلة والثورة أن يعلم كذلك أنه يدخل معركة غير متكافئة بمقاييس الدنيا، وأن الأنصار يقلون، والمخلصين يندرون، وبالتالي فليحذر من إسقاطه عن طريق عيوبه التي يدرسها الخصوم من المستبدين جيداً ويستثمرونها بلا رحمة. عليه أن ينتقي أتباعه جيداً وأن يتعلم من دروس الماضي القريب والبعيد أن الثورة خيار خطر وأن دماء الأبرياء حرام كحرمة الكعبة.

وعلى العالم المعارض أن يستشير ويستخير أبداً، وأن يدرك أن الله تعالى يداول الأيام بين الناس فلا يبتئس ولا يهن ولا يحزن، ويعلم كذلك أن رياح السياسة غدارة وتتغير دائماً، ولذلك فلا يصح أن يُلبس موقفاً سياسياً متغيراً لباس الشرع الثابت القطعي، ولا يصح أن يهرب من سلطة في بلد ما لتفترسه سلطة أخرى في بلد آخر ولو كانت أخف ضرراً وأقل ضريبة على دينه ودين الناس، ولا يصح أن يقع لسانه أو قلمه فريسة لأهل السياسة ولو كان فيهم خير، وإنما ينبغي له أن يظل واعياً بعيوب كل نظم الاستبداد على أنواعها، ويظل ناصحاً لأئمة المسلمين وعامتهم ومحافظاً على الإسلام قبل أي جماعة أو مؤسسة أو هيئة أو حزب، وأن يحرر نفسه ما استطاع من الحاجات المادية حتى لا يفقد حرية لسانه وقلمه، وحتى يظل قائماً بحجة الإسلام على الناس، ولو انحرف علماء السلطة واغتيل علماء الثورة.