لا يمكن أن نتحدث عن الاستبداد وأشكاله أو نفكك منظوماته دون أن نتحدث عن ثقافة العنف و”الإرهاب” وأشكالها ونفكك منظوماتها.

فالاستبداد بأنواعه السياسي والديني والاقتصادي بينه وبين الإرهاب تشابه بل وتحالف وتآزر وتعاضد، ولو دق على الكثيرين فهمه وخفى عليهم حقيقته. أولاً، الاستبداد يؤسس لثقافة عنف في المجتمع لأنه هو نفسه يقوم على سياسات عنيفة في فرض الواقع الاستبدادي، وعلى منطق العنف في إكراه القوي للضعيف على قبول هذا الواقع أو الموت إن قال له لا. قانون الاستبداد هو قانون الغاب.

ولكننا لابد أن نذكر مبدئياً أن الحديث عن العنف هنا ليس حديثاً عن العنف المشروع، والذي من المفترض أن تمارسه السلطة في كل دولة نيابة عن المجتمع ضد الجريمة وطبعاً في إطار القانون العادل الذي تواضع عليه المشرعون الممثلون للناس. هذا العنف المشروع ليس “إرهاباً” وإنما هو ضمانة الاستقرار والأمان في أي مجتمع، والحفاظ على مؤسسات الدولة التي “تحتكر وسائل العنف” في إطار أحكام وروح القانون هو حفاظ على المجتمع ومصالحه الكبرى وإقامة العدل فيه.

ولكن هذا العنف المشروع يشمل كذلك الدفاع المشروع عن النفس إذا اعتدى على حرمتها معتدي ولم يكن هناك وسيلة سلمية لدفع هذا الاعتداء، ويشمل كذلك القصاص المشروع شرعاً وقانوناً من القتلة ومنتهكي الأعراض: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب). وهذا الدفاع العنيف عن النفس التي حرمها الله وردع من يزهقها أو ينتهك عرضها بغير حق، مكفول في كل قانون وضعي وفي كل شريعة سماوية. ولكن الحديث هنا هو عن العنف خارج الإطار المشروع ولتحقيق مصالح ومآرب شخصية أو أيديولوجية، والذي هو ديدن الاستبداد في كل أشكاله الفردية والجماعية، حكومية وغير حكومية، سياسية كانت أم دينية أم اقتصادية.

ولابد أن نعلم أن مفهوم العنف الإرهابي لا يقتصر على قتل الأبرياء سواء من المدنيين أو القوات النظامية، أو الجرح أو التعذيب البدني بالضرب أو الجوع أو هتك العرض أو منع العلاج الطبي أو غير ذلك، رغم أن هذه كلها من أسوأ أنواعه. العنف الإرهابي يدخل فيه أيضاً العدوان اللفظي من شتائم وسباب وإهانات واتهامات بالباطل في الدين والذمة والعرض، ويدخل فيه الاعتداء على حرية الإنسان بالحبس ظلماً أو التقييد الغير مشروع عن التعبير والحركة والتجمع والاختيار الحر في شؤون الحياة، ويدخل في مفهوم الإرهاب عندي كذلك ما نطلق عليه في عصرنا العنف ضد المرأة، والذي يعتدي فيه ذكور الأسرة وذكور القبيلة وذكور المجتمع (ولا أقول رجال لأنه ليس كل ذكر رجل) يعتدون على الإناث جبروتاً وتعنتاً وسفالة، ويدخل في العنف ويؤسس للإرهاب – بل هو من أسوأ أنواع الإرهاب – إرهاب الدول في الاعتداء بالحرب التي يسمونها استباقية تارة وبالحصار الاقتصادي تارة، فيقتلون ويجيعون الشعوب دون أن يؤثروا على السياسيين الفاسدين في شيء، ويقتلون المدنيين والضعفاء والمرضى والأطفال الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع السياسي، وكذلك السياسات الإرهابية لبعض الدول والشركات العابرة للقارات والتي تعتدي على البيئة والتربة والماء والهواء والحيوان والنبات في بلاد العالم الثالث المتخلفة فتؤدي إلى وفيات وكوارث صحية للملايين من البشر ولو كانت بطيئة وبعيدة المدى. هذا كله يدخل في العنف والإرهاب.

والعنف والإرهاب بشقيهما البدني والمعنوي أصبحا سمة صبغت الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة خاصة مجتمعاتنا العربية للأسف، فلا تكاد يخلو بلد من الإرهاب من جانبيه: إرهاب المعارضة وإرهاب الدولة، ولا يكاد يخلو حوار سياسي من السباب والقذف والتخوين والتكفير، بل ولا تكاد تخلو من أشكال العنف اللفظي والمعنوي والافتراضي كل لعبة إلكترونية ومباراة كرة وعمل فني وبرنامج إعلامي، إلا من رحم الله. ثم إن الاستبداد بأنواعه السياسي والديني والاقتصادي يستقر ويتمدد بناء على أساليب العنف والإرهاب. أما الاستبداد السياسي فأساليبه الإرهابية مفصلة في القصص القرآني الذي يعرض النموذج الفرعوني الهاماني مثل: السباب والاتهامات الباطلة: (وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). (قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ)، والسجن ظلماً: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)، وقتل النفس وهتك العرض: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، والفتنة بين الناس والفساد في الأرض: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)، والتعذيب والإعاقة والقهر: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ). (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ). (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ). إلى آخره.

ولكن الاستبداد السياسي كما كتبنا سابقاً لا يقتصر على الحكومات المستبدة بل هو حالة عامة وثقافة عميقة في الشعوب قبل أن تكون في حكامها. فالمشتغلون بالشأن السياسي من “المؤيدين” و”المعارضين” للنظم السياسية ينتهجون العنف والإرهاب بينهم ودون اعتبار من كلا الفريقين لسلطة القانون ومعايير العدل والإنسانية، ولا يعبأ كلاهما بدماء الأبرياء التي تراق ولا أعراضهم التي تنتهك من الجانبين. المؤيدون للنظام الاستبدادي المدعومون بقوته وإعلامه يتهمون الناس بالباطل بمجرد الرأي أو النسب أو بطاقة الهوية أو الزِّي أو الانتماء السياسي، فيمارسون عليهم العنف والإرهاب من دون تهمة ولا ادعاء ولا محاكمة عادلة. والذين يدعون المعارضة أيضاً يتهمون الناس بالباطل بمجرد الرأي أو النسب أو بطاقة الهوية أو الزِّي أو الانتماء السياسي، فيمارسون عليهم العنف والإرهاب من دون ضابط ولا خلق ولا دين. هؤلاء وأولئك ليس بينهم فارق أخلاقي، فكلا الفريقين يمارس الإرهاب ولو كان أحدهم “مع” والآخر “ضد”.

وأما أصحاب الاستبداد الديني – مؤيدين ومعارضين – فالدين في مذهبهم لا يتعلق بكلام الله تعالى وإنما يدور مع هواهم، ولا بمثال المصطفى صلى الله عليه وسلم بل بمثال السفاحين والمتغلبين والطغاة. فإذا قال الله تعالى عن يوم القيامة: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بينهم)، قالوا: بل نحكم على الناس هنا في الدنيا ونقرر من يدخل الجنة شهيداً ومن هم “كلاب النار” على حد التعبير القبيح الشائع اليوم بين هؤلاء وأولئك، وإذا قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، قالوا: لسنا مذكرين بل مسيطرين على الناس بقوة السلاح. وإذا قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، قالوا: بل سنكره الناس لا على الإيمان فحسب وإنما على رأينا في كل صغيرة وكبيرة. وإذا قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، قالوا: لا نرضى بالاختلاف في الرأي ولا الأسلوب ولو في إطار القانون والشرع، ولا حل إلا العنف مع المخالفين الخوارج الخونة المرتدين … إلى آخره.

ويتخذ الاستبداد الديني شكلاً آخر في صورة أعضاء جماعات ومؤسسات دينية – مؤيدين ومعارضين – يدعون أنهم يناصرون الحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا هم يقتلون الأبرياء، ويقسون على الضعفاء، ويكسرون المرأة ويهدرون كرامتها، ولا يرحمون المذنبين، ولا يحافظون على العهود مع غير المسلمين. وضاع الدين بين المستبدين بالدِّين، مؤيدين ومعارضين.

وأما أصحاب الاستبداد الاقتصادي الذين يحتكرون ثروات الناس بالفساد والرشوة واستغلال النفوذ فالإرهاب في حقهم هو في الإنفاق على الإرهاب وتمويله في شتى صورة الفردية والجماعية والحكومية أيضاً. المحتكرون الفاسدون هم الذين يشترون السلاح ويوردونه ويهربونه لكل الأطراف في كل صراع، ويحملون الحطب للنار كلما خفتت من خلال احتكارهم للإعلام وأدواته.

وهناك فرع مهم من فروع الاستبداد الاقتصادي وهو المتعلق بتجارة السلاح. فمصنعو وتجار السلاح ووسائل التعذيب والعنف والقمع بكافة أشكالها في هذا العالم – سواء من الشركات أو من الدول – لهم مصلحة وجودية في استمرار الاستبداد وما يجلبه من الحروب والفتن والتفجيرات والصراعات الأهلية والقومية واستمرار “الإرهاب” على كافة الأصعدة، بل إنهم لن يألوا جهداً في إيقاد نار الحرب كلما أُطفِئت وزعزعة الأمن كلما استقر. وهؤلاء الناس لا يكادون يُذكرون في الإعلام ولا الخطاب العام، رغم أن قرارات الحروب وأسباب الفتن غالباً ما تعود إليهم وتصب أولاً في مصلحتهم. تجار السلاح مكون هام من مكونات الاستبداد ينبغي الوعي به وكشفه ومحاسبته.

وإذا كان القانون والشرع في كل ما سبق من حديث هو الفيصل بين القوة المشروعة والإرهاب المرفوض، وبين الدفاع المشروع قصاصاً والاعتداء الآثم على الحرمات، فلابد أن نعي كذلك أن المستبدين على أشكالهم قد يتلاعبون بالقانون نفسه أو الشرع نفسه من أجل تبرير وتمرير وشرعنة أفعالهم وخدمة مصالحهم الضيقة. وهذا أمر خطير للغاية نظراً لأهمية وحساسية القانون والشرع. فإذا تحول القانون والشرع إلى مجرد وسائل لخدمة الاستبداد ضاع الأمل في نفوس الشباب وانتشر العنف والإرهاب. ثقافة العنف والإرهاب لها أسباب كثيرة معقدة، ولكن الاستبداد على رأس تلك الأسباب.