أضحى موضوع “المقاصد” ميداناً رحباً للباحثين في العلوم الإسلامية، وذلك بسبب ما تعيشه الأمّة المسلمة من حركة قاصدة، لاستعادة كينونتها وإبراز هويتها المرجعية، بخصائصها المعرفية ورؤيتها الفكرية الحضارية؛ إذ إن علم المقاصد يمثّل -بلغة علماء التشريع المعاصرة- فلسفةَ التشريع وروحَه، فهو علم معياريّ، حاكم وضابط؛ أي موجّه ومرشد وكاشف، ودونه يكون التعامل مع خطابات الشارع ومقرّراته تعاملاً سطحياً، كثيراً ما يوقع في الخطل والخطر.

لقد زخرت المكتبة الإسلامية بكمّ من الكتب والدراسات والبحوث الجادّة في مجال المقاصد، سواء من حيث التنظير لهذا العلم وتأصيله، أم من حيث التفصيل عند معالجة القضايا الفقهية المعاصرة في الموضوعات المستجدّة والطارئة، ومن هاتيكم المؤلفات يأتي كتاب الدكتور جاسر عودة. وللوقوف على الكتاب وقراءته يحسن بيان مضمونه من خلال الخطة الرئيسة التي أقام المؤلف كتابه عليها، وهي على النحو الآتي:
تمهيد، بمنـزلة المقدمة، أبان فيه المؤلف هدفه من البحث، ومنهجَه الذي سار عليه، وأُسُسَ هذا المنهج. ثم بيّن موضوعات الكتاب في أربعة فصول.
الفصل الأول: المقاصد الشرعية وعلاقتها بالأحكام الاجتهادية، وتكوَّن من مبحثين: اعتبار المقاصد في الأحكام الشرعية ابتداءً من زمن الصحابة، وضوابط دوران الأحكام مع المقاصد.
الفصل الثاني: دوران الأحكام مع المقاصد بديلاً عن الترجيح بين الأحاديث الصحيحة، وقد بني على أربعة مباحث: بين التعارض في نفس الأمر والتعارض في ذهن المجتهد، ونظرية الترجيح، وأمثلة على إعمال كل النصوص الصحيحة المتعارضة باعتبار المقاصد، وحالتان يصحّ فيهما الترجيح.
الفصل الثالث: دوران الأحكام مع المقاصد بديلاً عن النسخ بالرأي المجرد، وجاء في مباحث خمسة: تعريفات النسخ، ونقد بعض مناهج الاستدلال على النسخ، وأمثلة على إعمال كل النصوص المحكمة المتعارضة باعتبار المقاصد، وثلاث حالات يصحّ فيها النسخ، وتطبيقات على الآيات الست التي انتهى إليها بحث الدكتور مصطفى زيد.
والفصل الرابع: تطبيقات على فقه الأقليات المسلمة، ومباحثه ثلاثة: حكم الإقامة في دار الحرب، وعلاقة المسلمين بغيرهم بين الاعتزال والصدام، وحكم بقاء المسلمة الجديدة مع زوجها غير المسلم.
وجاءت الخاتمة بعنوان (النتائج الأصولية للبحث) في نقاط رئيسة موجزة.
والقراءة في هذا الكتاب تتمحور فيما يأتي:
أولاً: عنوان الكتاب
لقد جاء عنوان الكتاب في جزأين؛ الأول (فقه المقاصد) وهو الأساس، والثاني (إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها) وهو مفسِّر للأول.
علم المقاصد ذو شقين؛ أولهما يبحث في بيان حقيقة المقاصد وطرق الكشف عنها، وآليّة تقريرها، وبيان درجاتها ومستوياتها، فهذا فقه المقاصد. والشقّ الثاني هو مقاصد الفقه الذي يعنى ببيان الغاية التي توخّاها الحكم الشرعي في مسألة ما، أو الغايات التي تنشدها الأحكام الشرعية في موضوع ما، والجزء الثاني من عنوان الكتاب أشار إلى هذا.
وعليه، فالكتاب إجمالاً ينتمي إلى بيان مقاصد الأحكام، لا أحكام المقاصد التي يوحي بها العنوان الأساس، فهو قد مزج بين جزأي علم المقاصد، وهذا من التجوّز؛ إذ من الناحية المنطقية لا يقبل إعادة ذكر المفسَّر في عبارة التفسير، فالأولى أن يكون الجزء الثاني من العنوان (إناطة الأحكام الشرعية بغاياتها وأهدافها)، فالفقه هو الأحكام الشرعية والمقاصد هي الغايات.
وقد أحسن المؤلف من حيث المبدأ في اختيار التعارض جانبا تطبيقيّاً، لأجل إبراز مقصده الرئيس في أن المقاصد تمثّل مرجعية ملزمة عند تفهم الخطاب الشرعي وعند تنـزيله على الواقع، وبهذا ينتفي التعارض أو تضيق دائرته.
ثانياً: المقاصد الشرعية وعلاقتها بالأحكام الاجتهادية
هذا هو موضوع الفصل الأول، وقد سعى المؤلف فيه إلى بيان أمرين هما:
1. أن تغيير الأحكام وفق الظروف من أجل استمرار تحقيق المقصد، هو المنهج الفقهي السليم، وهو الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من بعد النبي  وعلى رأسهم الفاروق عمر رضي الله عنه.
2. ضوابط دوران الأحكام مع المقاصد، وذلك عبر عنوانين، صاغ أحدهما في صورة سؤال: هل يصلح المقصد وصفاً يتعلق به الحكم؟ إذ عرض العلة وحقيقتها وما تمثله من ركنيّة في القياس، من خلال الشروط الواجب تحققها في الوصف ليكون علةً، ألا وهي: الظهور والانضباط والتعدي والاعتبار، وقد أشار المؤلف إلى تعريف كلّ منها، فإذا ما تحققت هذه الشرائط الأربعة فقد ثبتت العلة.
وليصل المؤلف إلى جواب لسؤاله، لزمه أن يشير إلى خلاف بين الأصوليين في شرطي “الظهور والانضباط”، وهذا تفرّع عنه مسألة: هل يجوز التعليل بالحكمة، وهي المصلحة المترتبة على الحكم؟ فساق أمثلة فقهية تقود إلى منع التعليل بالحكمة لعدم ظهورها أو عدم انضباطها أو لتخلُّف الحكم عنها، وهي أمثلة إجمالاً مقبولة، لكن بعضها محلّ نظر، وبعضها عرض بشيء من العمومية دون سبر وتعميق على ما يتطلبه البحث الذي يسعى إلى التأصيل والتقعيد المنهجي.
المثال الأول على خفاء الحكمة، هو أن عدّة المطلقة علّتها الطلاق، وهذا ظاهر منضبط، لكن الحكمة من العدة خَفِيَّةٌ، أهي براءة الرحم؟ أم فرصة للصلح؟ فإذن لا يجوز التعليل بالحكمة. فالمراد بلفظة “العلة” في قول الفقهاء (الطلاق علّة العدّة) هو المعنى العام؛ أي السبب الذي يرتّب مسَبَّباً، بدليل أن شرطي “التعدي والمناسبة” مفقودان، فهل يوجد وصف الطلاق في غير الطلاق؟ وهل يدرك العقل وجه المناسبة بين إيقاع لفظ الطلاق وإيجاب العدة؟! كلا. فإذن هذا الوصف (الطلاق) ليس علة بالمعنى الفنيّ الدقيق في باب القياس.. وهكذا يبدو أنه حكم تعبديّ، وقد أشار المؤلف إلى هذا.
من المهم أن نتذكر أنَّ الفقهاء عند بيانهم الأحكام، كثيراً ما يستخدمون عبارات فيها تجوُّز، فيعبِّرون بالسبب ويقصدون المسبَّب، أو يعبرون بجزء الشيء والمراد الكلّ، أو يذكرون النتيجة ومرادهم السبب، وهذا أسلوب سائغ لغة ومنطقاً، وهو شائع لديهم يدركه من يتعامل مع كتب الفقه، وتصبح عنده الدربة في فهم صياغاتهم ويدرك طرائقهم في البيان والتقرير.. فوجب الانتباه إلى هذا الأمر، فالفقهاء عند كلامهم على حدّ الزنى، ذكروا أن الحكمة هي منع اختلاط الأنساب، وهذا بناءً على الغالب من أحوال الزناة، أو أنه من قبيل ذكر الأهم في الأمر، غير أن الدقة تقتضي أن نقول إن الحكمة هي حفظ العرض بوصفه قيمة خلقية واجتماعية، وهو مقصد شرعيّ قطعاً.
والمؤلف بعد سوقه الأمثلة يقرّر أن الحكمة تفترق عن المقصد، فقد تكون جزءاً منه، وقد تكون هي المقصد، وقد تختلف عنه كليّاً. وهذا الشطر الأخير غير مسلّم به، فلا يمكن أن تتباين الحكمة عن المقصد، ولا يتأتى الإتيان بمثال تكون فيه الحكمة تختلف عن المقصد، بدليل أنَّ بعض أئمة الأصول والمقاصد يقرّرون أن العلة والحكمة والمقصد والمصلحة شيء واحد لا فرق بينها، ومن هؤلاء الشاطبي.
وربما قصد المؤلف أن التعليل ينبغي أن يكون بالمقصد وذلك لتوسيع دائرة القياس، مما يعطي الفقه الإسلامي قدرة أكبر في التعامل مع المستجدّات واستيعاب المتغيرات. والحق أنّ الأصوليين عندما علّقوا الحكم بوصف اشترطوا فيه المناسبة، فإنهم يكونون أناطوا الحكم بمقصده؛ إذ إنَّ إناطةَ الشرعِ الحكمَ بوصف ما دليل على أنَّ هذا الوصف معتبر للشارع في جلب المصلحة، وهذا ما يقرّره العقل المتدبّر، ثم إنَّ قولهم: إنّ العلة هي مظنّة تحقيق المقصد الشرعي، أدقّ من القول: إنّ التعليل يجب أن يكون بالمقصد؛ إذ يترتب على هذا وجوب تحقق المقصد ليتحقق الحكم، وهذا فيه مجافاة لِيُسر الشريعة، بينما على قول الأصوليين تكفي غلبة الظن من خلال وجود الوصف، وإن لم يتحقق المقصد عملياً.
فالضابط الأول لدوران الأحكام مع المقاصد، هو التعرف على مقصد الحكم وإثباته بتمييزه عن الحكمة. والضابط الثاني جاء تحت عنوان: تحديد مساحة التعبّد المحض، وهو ألا يكون مقصد الحكم تعبدياً محضاً، والمؤلف هنا اختزل وأوجز، لكنه أفاد وأنجز؛ إذ انتهى إلى وضع معيار مؤدّاه: “كلّ ما لا يعقل معناه ولم يتعلّق بالعباد، أو تعلق بالعباد وليس لهم حق إسقاطه فهو تعبديّ، وكلّ ما عقل معناه بعلته ومقصده فليس من التعبدات المحضة، فيدور مع مقصده المصلحيّ.”
ثالثاً: دوران الأحكام مع المقاصد بديلاً عن الترجيح بين الأحاديث الصحيحة
هذا هو موضوع الفصل الثاني، وهو متصل مع الفصل الثالث الذي يتحدث عن دوران الأحكام مع المقاصد بديلاً عن النسخ بالرأي المجرد، فهذان الفصلان مدارهما المحوريّ متحد، فالمقصد الذي يبغي المؤلف إثباته، هو لزوم اعتماد المقاصد أصالة وابتداءً في التعامل مع النصوص التي يصنفها العلماء تحت عنوان (التعارض، المختلف، المشكل)، وهو ينطلق مما قرّره في الفصل السابق من لزوم كون الأحكام تدور مع مقاصدها المصلحية، فهي معللة بها.
إنَّ الآليّة السليمة في فهم التعارض تكمن في تفعيل المقاصد، فإذا فُهِم مقصد الحكم الجزئي، ورُبط بالمقصد الكليّ فعندئذ ينتهي التعارض، والتباين في وجهات العلماء ما كان ليكون لو روعي المقصد واعتبر عند النظر والتطبيق. وهذا المسعى للمؤلف ينبغي أن يلقى قبولاً واستحساناً مبدئياً؛ إذ إنَّ الشريعة قائمة على التدبر للوصول إلى الحقائق والمرامي.
والمؤلف في موضوع التعارض لا يخرج عمّا قرّره الأصوليون، فقد انطلق من الكلام على بيان ماهية التعارض، وأتى على مصطلحات منطقية وفلسفية زيادةً في التجلية، ليصل إلى أنَّ التعارض بمعنى التناقض حقيقةً، لا يمكن تصوره في نصوص الشرع؛ فالله عزّ وجل عليم حكيم أخبر عن كتابه بقوله: ﮋﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ (النساء: 82)
والخلاصة يقرّرها الشاطبي بقوله: “كلّ من تحقّق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كلّ من حقّق مناط المسائل فلا يكاد يقف في فهم متشابه، لأنَّ الشريعة لا تعارض فيها ألبتّة، فالمتحقّق بها متحقّق بما في الأمر، فيلزم ألا يكون عنده تعارض، ولذلك لا نجد ألبتّة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم.”
وعليه؛ فإنَّ الأدلة القواطع لا يتصور فيها التعارض (التناقض) إلا أن يكون أحدهما ملغىً. وكذلك لا تعارض بين علم وظن، وإذا وجد التعارض (التناقض) بين خطابين غير قطعيين (آحاد)، فجزماً أحدهما خطأ محض، أمّا إن كان التعارض ظاهرياً فإنّ العلماء بيَّنوا طرق التعامل معه، وقد أتى المؤلف عليها، وأشهرها “الجمع والترجيح والنسخ.” والمنطق البدهيّ يقضي بالجمع بينهما ابتداءً. وقد أبان المؤلف في هذا الأمر وأحسن، مستفيداً ممّا يسمى نظرية ” تعدّد الأبعاد”، وهذا موجود لدى الأصوليين.
وقبل الوقوف مع المؤلف في موقفه من قضية الترجيح، ينبغي منهجياً بيان المراد بالترجيح لدى الأصوليين، فهو يعني “تغليب أحد الدليلين المتعارضين لسبب أو ميزة فيه،” فيفهم من هذا أنَّ الدليل المرجوح لم يتم إلغاؤه كليّاً، وإنَّما لا يزال له اعتبار ما في وجوده مع احتمالية قبول العمل به، ذلك لأنَّ التعارض صوري ظاهريّ لا حقيقي، يقول إمام الحرمين: “إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة.”
موقف المؤلف من الترجيح ونقده
يقول المؤلف بعد سوقه طرق الترجيح: “وأيّاً كان طريق الترجيح… فإنّ منهج الترجيح لا يصحّ أن يردّ به حديث وصل إلى درجة الصّحة سنداً ومتناً، بمجرّد التعارض الظاهريّ… ونحن نعلم أن هذا التعارض بسبب ما قصرت أذهاننا عن فهمه، وليس تناقضاً في نفس الأمر، وقد تبيّن باستقراء كثير من حالات الترجيح أن كثيراً من الأحاديث التي حكم عليها بأنها مرجوحة قد وصلت إلى درجة الصحة ويحتج بسندها نفسه في مسائل أخرى، وهذا تناقض منهجي غير مقبول، وتقصير في طلب الجمع بين الحديثين.”
هذا الرأي للمؤلف يحمل في ثناياه تساؤلات وإشكالات، ذلك أنه أعطى حكماً قاطعاً وكأن المسألة من العقليّات، ولعلَّ ثمَّة ملحوظات على مقولة المؤلف تتمثل فيما يأتي:
1.    يرى المؤلف الترجيح ردّاً للحديث. وهذا فيه نظر كبير، وقد سبق بيان معنى الترجيح وحقيقته.
2.    يتهم المؤلف من يقوم بالترجيح بالتقصير في البحث عن الجمع بين الحديثين، وهذا –برأيي- يحتاج إلى إعادة نظر، وتدقيق في الحكم؛ لأن من يملك أدوات الاجتهاد كاملة، واجب عليه بذل وسعه وطاقته في النظر والبحث، وهذا لا يعني أنه لا يقع منه غفلة وسهو ونسيان، لكن هذا بحكم النادر فيمن تحقق بأصول الشريعة، كما عبّر الشاطبي.
3.    السؤال نظرياً لا يزال قائماً وهو، إذا ما استنفد العالِم كلّ احتمالات الجمع، ولم يثبت النسخ أيضاً، فما العمل؟ فلا يعقل أن يكون هناك إمكانية للجمع ثم يعمد الفقيه إلى الترجيح! وقد قال ابن قدامة: “فإن لم يمكن الجمع ولا معرفة النسخ، رجَّحنا.”
4.    قول الشافعي في أنه لا يجوز لعالِم أن يردّ خبراً ثابتاً، وقد أورده المؤلف تأييداً لرأيه. هذا القول لم يقرّره الشافعي في مجال التعارض والترجيح، بل رداً على من يقدّم قياساً أو استحساناً أو اجتهاداً ما على خبر الآحاد، أمّا كلامه فيما يتعلق بالتعارض وهو واضح الدلالة على أن الجمع قد يتعذّر على العالِم، وقد أورده المؤلف نفسه، ونصّه: “ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما ما وجدوا لإمضائهما وجهاً، ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معاً.”
5.    رأي المؤلف مآله أن الجمع ممكن مطلقاً، والصواب أن الجمع ممكن بإطلاق، فالأولى تعني أنَّ أيّ حديثين متعارضين لا يمكن لأيّ عالِم إلا أن يجمع بينهما بوجه ما، بينما العبارة الثانية تعني أنهما قد يجمع بينهما وقد لا يجمع.
6.    المؤلف مع موقفه الصارم تجاه الترجيح والمرجحين، يرى وجوب الترجيح في حالتين ثنتين لا ثالث لهما، الأولى: أن يكون التعارض في الأمر نفسه، والثانية: أن يكون أحد الدليلين من الضعف بحيث لا يحتجّ بمثله. وهاتان الحالتان ليستا من الترجيح في شيء؛ فالحالة الأولى هي من باب التناقض وليس التعارض الظاهري، والأمثلة المسوقة لهذه الحالة هي الأمثلة نفسها ساقها المؤلف قبلاً لنفي التناقض في نصوص الشرع! وقد قال الجويني: “تعارض القطعي ليس من الترجيح.” والحالة الثانية، ليست من التعارض؛ لأنَّ من شروط التعارض أن يكون المتعارضان متساويين في الثبوت، ولذلك فبعض الأصوليين مثل البيضاوي، يستعمل مصطلح “التعادل” بدل “التعارض”، فما دام أحد النصين لم يثبت، فالمعوّل عليه هو الثابت وحده؛ إذ إنَّ هذا علمٌ وذاك ظن ووَهْم، ولذا جاء في روضة الناظر: “ولا يُتصوَّر أن يتعارض علم وظن.”
رابعاً: دوران الأحكام مع المقاصد بديلاً عن النسخ بالرأي المجرد
النسخ قضية القضايا، فهو وإن كان يلتقي مع “الترجيح” في أصل الفكرة التي عالجها المؤلف، إلا أنه أعمق وأخطر أثراً، ولئن حصل خلاف مع المؤلف في موقفه من الترجيح والمرجحين، لكن في موقفه من قضية “اللجوء للنسخ بحجة إزالة التعارض” ينبغي الشدّ على يديه، مع إمكانية التحفظ على بعض الجزئيات.
النّسخ بالمعنى المصطلحيّ لدى الأصوليين الذي أورده المؤلف؛ أي الإلغاء والإزالة المستديمة، تناولته كتابات المعاصرين، وذلك لما يثيره هذا الموضوع من إشكالات، ليس فقط في المجال الفقهيّ، بل العقديّ؛ إذ اتخذه ذوو الأهواء والجهل ذريعة لتحقيق مآربهم أو ما يظنونه ديناً وتعبداً لله، خاصة فيما يتصل بالعلاقة مع غير المسلمين.
تقرّر أن لا تناقض في كلام المشرّع، والنسخ لا يُلجأ إليه إلا إذا تعذّر فهم الخطابين معاً، واستحال العمل بهما معاً؛ أي إنهما متناقضان، فمؤدّى هذا أن يكون النسخ نادر الوقوع. وقد سبر المؤلف قضية النسخ في مسائلها الرئيسة على النحو الآتي:
1. ثبت ضعف القول بوجود نسخ للأحكام في القرآن؛ إذ إنّ ثبوت النسخ مبدأً، أو وقوع النسخ لحكم ما، يحتاج إلى دليل في غاية الوضوح والصراحة. والنسخ أو التبديل الذي ورد في بعض آيات القرآن إنَّما جاء في سياق الكلام على الشرائع السابقة على الإسلام لا شرائع الإسلام.
2. هل التعارض دليل كاف على النسخ، وأيّ تعارض؟ لقد سبقت الإشارة إلى أنه تعارض التناقض، فإن ثبت هذا، وهو نادر، لزم المصير إلى النسخ كما يقرّر المحققون من أهل العلم، وقد ذكر المؤلف بعضهم. ولتأكيد نفي وجود التناقض بين الأدلة التي قيل فيها بالنسخ، كان لا بدّ للمؤلف أن يسرد مجموعة من الأمثلة القرآنية والحديثية، ويقرأها ليخلص إلى إمكانية الجمع بين كلّ دليلين منها. وبما أن مناط تَحقُّق النسخِ هو وجود تعارض التناقض، وهذا منتفٍ، فالنتيجة المنطقية أن لا نسخ.
3. هل وجود متقدمٍ ومتأخرٍ يلزم منه التعارض، فيُطرَح المتقدم ويتبع المتأخر؟ وهذا هو الركن الأعظم في النسخ حسب تعريفه الأصولي. وقد استعرض المؤلف انطلاقة مقولة “الأحدث فالأحدث”؛ بوصفها سمة للصحابة رضي الله عنهم في طاعة لله والرسول، وهم في حضرته ، ثم الصيرورة في مدلول هذه المقولة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ إذ جدّت للصحابة أمور ومسائل، وهنا برز اختلافهم في هل يُلتزم آخر الدليلين “الأحدث” وحسب؟ أم أن السابق له اعتبار بوجه ما فيكون الأخذ بهما كلاً وفق ظرفه وسببه؟ وربما بعضهم لا يعرف إلا أحد الدليلين.
إن منطق الفهم يقضي بأن “التقدم والتأخر” بمجرّده لا يلزم منه نسخ ولو تعارضا، إلا أن يتناقضا، أو يثبت نص من المشرِّع بتقرير النسخ بينهما، كما بيَّن أئمة العلم كالشافعي والغزالي وابن رشد وسواهم، وقد ساق المؤلف بعض مقولاتهم. والتناقض بمنـزلة النص على النسخ.
4. وعليه؛ فأيّما قول بالنسخ بين متقدم ومتأخر دونما التزام بهذا الشرط، هو قول داحض، لأنه يقود إلى سلبيات طامّة. والأمثلة التي أوردها المؤلف، سواء في مجال العبادات أم المعاملات والمعاشات، وقراءتها أفقياً وعمودياً خير شاهد على ما أصاب المسلمين فكرياً، فأثَّر في مسيرتهم الحياتية داخلياً، وخارجياً على المستوى الإنساني والحضاري، لا سيّما ما يتصل بالموقف من الآخر، ويكفي تدليلاً الإشارة إلى آيتين قيل بنسخهما لما سواهما بناءً على تأخرهما، وهما الآيتان المعروفتان بآية السيف وآية الحجاب.
فآية السيف: ﮋﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮊ (التوبة: 5) نسخت كلّ آية تدعو إلى العفو والتسامح أو التعاون والإحسان والبر والتعامل المعيشي بيعاً وشراءً حتى الكلمة الطيبة. فكل هذا وغيره مما يشابهه إنما كان قبل نـزول آية السيف، فأين إذن الدعوة إلى الإسلام، وكيف تكون؟!
وآية الحجاب: ﮋﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﮊ (الأحزاب: 53) نسخت كلّ ما يدل على إباحة خروج المرأة من بيتها للعمل والتعلم والتعليم، والكلام مع الرجال ولو أقاربها فضلاً عن الزيارة بينهما. فكلّ ذلك وغيره قامت آية الحجاب بحجبه، فأين إذن التعاون والتناصر لإقامة الحياة؟!
5. سبيل الخلاص من إشكالية القول بالنسخ، هو الحلّ ذاته الذي اعتمده المؤلف للخلاص من الترجيح؛ أي عدّ المقصد لكلا النصين وربطه بالمقصد الكليّ العام، فيزول التعارض دون نسخ، ويبقى النصان في دائرة العمل؛ فقد يكون سبب التعارض بين المتقدم والمتأخر التصرف بحكم مقتضيات السياسة الشرعية لحفظ الضروريات، كتحقيق التكافل الاجتماعي.
وقد يكون سبب التعارض بين المتقدم والمتأخر التدرج في بيان الأحكام وتطبيقها، وهذا من التيسير وهو مقصد تربوي وسلوكي، ولا يصحّ أن يسمى التدرّج نسخاً. وقد يكون التعارض بينهما ناجماً عن توارد أكثر من مقصد مما يستدعي الموازنة بينها، كما إذا اجتمع التعبد والتيسير، وكلاهما مقصود للشرع، أو اجتمعت المنفعة والمفسدة، والأمثلة كثيرة.
خامساً: تطبيقات على فقه الأقليات المسلمة
يمَّم الدكتور جاسر عودة في هذا الفصل وجهه شطر الأقلّيات المسلمة، وقصد منه تطبيق ما سلف من طرق التعامل مع المتعارض، ثم إبراز وجهته التي قرّرها في فهم النصوص الواردة في كلّ من المسائل التي عرضها، بناءً على كشف العلة والمقصد لكلّ نص وتنـزيله عملياً، ومن ثم لزوم الدوران معه مهما اختلفت الظروف وتغيّرت الصروف. وموضوع “الأقليات المسلمة” له أهميته المعاصرة لحيويته، مع أن المسائل الثلاث التي اختارها مطروقة حاضراً وقديماً، وهي:
–    المسألة الأولى: الإقامة في دار الحرب؛ وهي ليست محظورة ولا مباحة، وإنما تعتورها الأحكام الفقهية الخمسة المعروفة، وذلك بمراعاة وجوب الدعوة أو طلب العلم أو التجارة، وأيضاً درجة الضرر وإمكانية حصوله، وكذلك دوافع الهجرة وأسبابها وما فيها من مصلحة أو مفسدة.. وعلاقة كلّ هؤلاء بالمقاصد الضرورية. فهذا ما ترتضيه طبيعة الحياة ومنطق الفهم الرشيد، فالإسلام بوصفه الدين الخاتم يحتِّم أنه عالميّ، وهذا يقتضي أن ينطلق المسلم لبيان الحق، فما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، وقطعاً فإنَّ هذا التحرك أو عدمه محكوم بإرادة المشرع ومقاصده، وليس برأي المرء وميولاته.
يرى المؤلف وعدد من الباحثين -بعد استقراء لنصوص الشريعة- أنَّهم لم يجدوا مصطلح “دار الإسلام ودار الحرب والعهد”، فهو مصطلح جاء فيما بعد لاعتبارات الواقع، فلا بدّ من مراجعة هذه المفاهيم لقصورها عن الاستجابة لتطور العلاقات الدولية المعاصرة وتداخلها. ولعل ثمة وقفة طويلة أمام هذا الرأي:
•    فالقرآن يتحدَّث في كثير من مواضعه عن صنفين رئيسين من الناس؛ المسلمين وغير المسلمين، وهؤلاء يجعلهم في قسمين؛ محاربين وغير محاربين؛ أي إن هناك أرضاً للمسلمين وأرضاً لغيرهم، هي إمّا في حرب أو لا.
•    أمّا السنة فيكفي الحديث الذي يرويه البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: “كان المشركون على منـزلتين من النبيّ والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه،” فهذا قول صريح في هذه التقسيمات الثلاثة.
وأمّا الدعوة لتغيير هذا التقسيم فيكفي أن القانون الدولي الوضعي يقسم العالَم إذا وجدت حرب إلى قسمين؛ دول متحاربة ودول غير متحاربة، ثم إن هذا هو الواقع عبر التاريخ، فالناس بالنسبة لكل أمّة إمّا معادون لها أو مهادنون موادعون.. فالقسمة ثلاثيّة، فأين الخلل والعوار فيما قرّره الفقه الإسلامي، وإذ يوافقه الفقه القانوني الحديث؟! ولم ينبغي عليهم تقديم المصطلح البديل؟!
–    المسألة الثانية؛ طبيعة علاقة المسلمين بغيرهم، وهي وسابقتها وطيدتا الصلة، واتجاهات الرأي فيهما متحدة، والتعليل المقاصديّ حول عالمية الإسلام الذي سيق آنفاً ينطبق على هذه المسألة، ممّا يدحض القول بأن أصل العلاقة مع الآخر هي الاعتزال فضلاً عن الصدام، بل هي الدعوة بالحوار والتعايش بالجوار والتعامل بالقسط والبر. وتعميقاً مقاصديّاً للتعليل الآنف يجدر تقرير الآتي:
أ. لا تلازم بين حكم الإسلام على الآخر بالكفر، وسوء العلاقة معه. فالمسلم والآخر كلاهما يتعامل مع الكون ويعيش فيه، فإذن لا بدّ أن يكون لهما منهج محكم يمضيان فيه معاً نحو تسيير الحياة بما يصونها وينشر في جوانحها الرَّخاء، وكلٌ له قناعته الفكرية والعقديّة وإن تباينتا.
ب. القرآن كتاب الله والإنسان خلق الله، فلا عداوة. وهذا الذي قرّره القرآن وصدر عنه تأصيلاً وتأطيراً، نابع من ذاتيّته ومكنونه الطوعيّ، وينطلق من بذرة تختزل كلّ ما قيل حول حقيقة الإنسان، هي قوله عز وجل: ﮋﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮊ (الإسراء:70)، إنها “الكرامة”..! فهل لفظة أشمل منها وأجمل، أو أمتع وأنفع؟!
ت. وبهذا ينتفي القول بأن مناط القتال في الإسلام “الكفر بذاته”، بل علّته “الاعتداء” بالنص الصريح ﮋﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮊ (البقرة:194)، ولو كان “الكفر” العلةَ لما كان النبيّ  ينذر ويدعو من يتوجه إليهم للقتال، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: “ما قاتل رسول الله  قوماً قط إلا دعاهم.” وعلى هذا جمهرة الفقهاء، بل مما يعجب منه أن الشافعية نصّوا على أنه إذا حصل قتال قبل الدعوة والإنذار فإنَّ المسلمين يضمنون ديات قتلى الكفار كديات المسلمين بسواء.
–    المسألة الثالثة؛ هل تبقى المسلمة الجديدة مع زوجها غير المسلم؟ جدير أن تأخذ مسألة كهذه نصيبها الوافر من عمق النظر ودقة الفكر، فهذه المسألة فقهية. غير أن لها بعداً آخر مهماً وخطراً للغاية، هو الجانب العقديّ والبعد الإيمانيّ، فليست هي كالكثير من المسائل ذات الصبغة الفقهية المحضة، وهذا الجانب لم يطرق ولم يسبر، وربما لم يشر إليه إلا بكلمات عابرة، ومن ثم جاء استعراض المسألة تقليدياً، عبر آلية النظر إلى النصوص وحسب، أهي متعارضة فيؤخذ بعضها ويترك ما سواه، أم يمكن التوفيق والجمع بينها بتعدد الأبعاد، كما يرى المؤلف. إن مسألة “المسلمة جديداً..” لها خصوصيتها، لذا ينبغي تركيز القول فيها على النحو الآتي:
•    ليس في هذه المسألة عدة أحكام “خطابات شرعية”، ووقائع الزواج بين مسلمات ومشركين أو دخول مسلمات جدد في الإسلام دون أزواجهن إنما كانت قبيل النبوة أو مع بدايات الإسلام بناء على “البراءة الأصلية” أو “الحكم قبل مجيء الشرع”، فليست هي أحكاماً شرعية بالمعنى الأصولي للحكم الشرعي.
•    ما ورد عن الشارع في هذا الشأن مباشرة هو قوله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة: 10) وكان قبل هذا جاء خطابه عز وجل: “وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ” (البقرة: 221) وبعد هذا جاء قوله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ” (المائدة: 5) والنظر في هذه الخطابات الثلاثة أصولياً يوصل إلى أنَّ آية سورة البقرة تمثل الحكم الأولي والأساس بالنسبة لمنع التزاوج بين المسلمين وغيرهم عموماً. وأن آية سورة المائدة خصّصت آية البقرة؛ إذ أباحت للرجل المسلم التزوج بالعفيفة الكتابية. وجاءت سورة الممتحنة لتقول إن غير المسلمة إذا أسلمت فلا ولاية لقومها غير المسلمين عليها آباء وأزواجاً. والمتزوجة يسقط عقد زواجها إلا أن يسلم زوجها خلال العدة، أو بعد العدة ولم تكن تزوجت تساهلاً وتيسيراً. فجماع القول في أصل علاقة النكاح بين المسلمين وغيرهم هو المنع قطعاً. ولعل حكم المنع ربط بوصف مشتق فدلّ على أن مصدر الاشتقاق “الشرك، الكفر” هو العلة، هذا ما يقرّره الأصوليون، فالعلة نصيّة واضحة بلا خلاف.

أمّا التحليل المقاصدي للمسألة فيتركّز على النحو الآتي:
– هناك عدة بدهيات أصولياً ومقاصدياً، أولها: الدِّلالات اللفظية واللغوية الواضحة غير المحتملة لا يجوز بحال تجاوزها. وثانيها: الحكم الثابتة علته نصاً، لا يصح تقرير حكمة له تنافي علته ولو جزئياً؛ إذ إنَّ مآل هذا إلغاء إرادة المشرع المنـزَّهة، وثالثها: المقصد الجزئيّ لا يجوز أن ينافي المقصد الكليّ ولو جزئياً، فالمهيمن هو المقصد الكليّ، والجزئي ذائب فيه.
– المقصد الشرعيّ لمسألة حظر عقد النكاح بين المسلمين وغيرهم، يتمّ تقريره من خلال التدبر لخطابات القرآن المتلوة آنفاً، لا سيّما ما ورد في آيتي البقرة والممتحنة، عبر ألفاظها صياغة ونظماً ودلالات، كأنها خطاب واحد، إضافة لما قيل حول العلة فيهما.
ختماً لقراءة “فقه المقاصد” ولمسألة المسلمة جديداً، ينبغي لفت النظر إلى أنَّ المؤلف، كان قرّر أكثر من مرة في كتابه أمراً عدّه بدهياً، هو أنه لا يصحّ اعتماد آراء المجتهدين المجردة في القول بالترجيح والنسخ، وإنما المعوّل عليه ما تثبته النصوص الثابتة عبر تقرير عللها ومقاصدها، وهو محقّ كما سبق بيانه، لكنه خالف منهجه هذا في هذه المسألة، فمع أنه قال إن معظم الآراء اجتهادية إلا أنه اعتمد أحدها، وهو رأي ابن تيمية، وساق مؤيدات له وصفها بالقوية؛ وهذا ينافي منهجه المذكور لأنها أقوال مجردة لمجتهدين من الصحابة (رضي الله عنهم)، فكونها أقوال صحابة لا يجعل منها أحكاماً شرعية، إذ الحكم الشرعي خطاب الشارع، ولا فرق من حيث العلم بين مجتهد صحابي وآخر غير صحابي، فكلاهما مجتهد مكلَّف بالخطابات كسائر المسلمين.
وآخيراً، فكتاب فقه المقاصد – مع كل ما سلف عنه من حيث موضوعه ومضمونه وأسلوبه ومنهجيته – هو خطوة مهمة وجريئة في تجديد الدعوة إلى ضرورة التزام المقاصد وأنها مرجعية، لا سيّما عند توارد الإشكالات وكثرة الاجتهادات بوجود نصوص ظاهرها التعارض. وهكذا يبرز الاجتهاد التشريعي في الإسلام بمقدرته على التفهم والتعاطي والمعالجة، وهذا بدوره يجعل الشخصية المسلمة عميقة النظر، رحيبة الصدر، حكيمة الفكر، ومن هنا تصدق مقولة “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”.
إنَّ كلَّ ما سلف يجلّي الدور البليغ لعلم المقاصد والكتابة فيه، أو الاستناد إليه في إنضاج البصيرة، وتكبير العقل وتحفيزه وتفعيله في مسيرة الحياة، لتبليغ الرسالة الحضارية للإسلام، وتحقيق مقاصده.


* قراءة الدكتور رائف محمد نعيم – أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون- جامعة عمر المختار- ليبيا. (مجلة إسلامية المعرفة: عدد 066).