• الكتاب: بين الشريعة والسياسة.. أسئلة لمرحلة ما بعد الثورات
  • الكاتب: د. جاسر عودة
  • عدد الصفحات: 135 صفحة
  • الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
  • الطبعة: الأولى/ 2012
  • عرض: محمد إمام

أثار دخول عدد من الجماعات والحركات الإسلامية المعترك السياسي بعد الثورات العربية العديد من التساؤلات, خاصة مع بدء بعض الدول وضع دستور جديد, يتلاءم مع المكتسبات التي حققتها الشعوب, ومع الآمال والطموحات التي خرج الثوار من أجلها, كالكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية, وفي الوقت نفسه تمسّك تلك الحركات الإسلامية بـ”المرجعية الإسلامية”, واختلاف بعضهم بين تطبيق “الشريعة” أو “مبادئ الشريعة”.

ومن هذه التساؤلات, ما الفرق بين “الشريعة” و”مبادئ الشريعة”, وهل تتعارض الشريعة الإسلامية مع الهوية الوطنية, والفرق بين أحكام الشريعة ومبادئها, وشرعية تفرد الحاكم بالرأي, والعلاقة بين “الديني” و”المدني”, وموقف الإسلاميين من “العلمانيين”, وتطبيق الحدود, والجزية.

وضمن الجهود للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها, يأتي كتاب الباحث المصري د. جاسر عودة, نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بمؤسسة قطر, الذي قدّم إجابات للعديد من الأسئلة, منطلقًا من رؤية مقاصدية مع مراعاة الأولويات الشرعية, مؤكدًا على أهمية الحديث في هذه الأسئلة لأن بعض المشتغلين بالشريعة ينظرون إلى المسائل الإسلامية نظرة يغلب عليها الشكلية والنمطية.

ولعل هذا الجهد هو بادرة ومحاولة لتناول الأمور وفق منظور مختلف, ومن زوايا أخرى تحتاجها الأمة, بعد أن توقف الاجتهاد فيها لقرون, واستمر البعض في التعامل مع التراث دون شرط أو قيد, متخذين موقفًا سلبيًا من الآخر, مبنيًا على تصورات مسبقة, تؤثر في قراراتهم, وأفعالهم بالتبعية.

الشريعة والهوية

أحد أهم الأسئلة التي أجاب عنها المؤلف, هو “هل تتعارض الشريعة الإسلامية مع الهوية الوطنية؟”, ويجيب: “لكل إنسان وأمة (هويّات).. والهويّة مجموعة من المكونات الثقافية واللغوية والدينية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية التي تميز الإنسان عن غيره من البشر وتميز الأمة عن غيرها من الأمم، فالمصري مثلًا, هويته متعددة وليست هوية وثقافة واحدة, فهو يحمل الهوية “المصرية”، و”االعربية”, وفي أغلبه يحمل “الهوية الإسلامية” بالإضافة إلى أن بعضه يحمل “الهوية المسيحية”, وعليه لا يمكن حذف الإشارة إلى الشريعة من الدساتير في بلاد الأغلبيات الإسلامية، ففي ذلك إهمال لمكون رئيس من شخصية قطاع ساحق من الشعب.

أما الحد الذي ينبغي أن تدخله “الشريعة” في مجالات الحياة، يفرق المؤلف بين قضايا الشريعة التي ينبغي أن تكون مرجعيتها مبادئ وقيم ومعاني عامة فقط، والقضايا الأخرى التي لابد أن تدخل الشريعة في التفاصيل والقوانين المحددة, وكل يقدر بقدره.

وعند الحديث عن الشريعة يثور تساؤل “هل الشريعة هي نفسها مبادئ الشريعة؟”, فيبين المؤلف أن الاسم العلمي لـ”مبادئ الشريعة” وكلياتها وأهدافها هو “مقاصد الشريعة” وهي الغايات والمصالح والمعاني والأهداف والعلل والحكَم والأسباب، والتي أتت “الشريعة” لتحقيقها في دنيا الناس, والأساس الفلسفي الذي بنيت عليه هذه المقاصد هو أن الله عز وجل لا يفعل شيئًا عبثًا، وهو قد منّ علينا بإرسال الرسول, صلى الله عليه وسلم, وإنزال “الشريعة”، لتحقيق مصالح وغايات وأهداف ومعاني معينة.

أولويات المرحلة

وتثور إشكاليات عند تطبيق الشريعة ومبادئها, فالبعض يستدعي كل أفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم, ويرى الكاتب أننا يجب أن نفرق بين قراراته وتصرفاته عليه الصلاة والسلام “التشريعية”، وما كان على سبيل “بشريته المحض”، وما كان على سبيل “الإمامة”، أو ما نطلق عليه بلغة العصر “السياسات”.

“أما التشريع فهو وحي إلهي ثابت لا يتغير، وأما ما كان منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الفعل البشري اليومي (كالأدوات والعلاج ووسائل السفر والأثاث والزينة والمباني…)، فلا يلزم الناس, إلا أن يقلده بعض الأفراد على سبيل المبالغة والاقتداء والمحبة في خاصة نفوسهم، وأما ما كان على سبيل السياسات –بأنواعها المختلفة– فالعبرة فيه هنا بالمعاني والمبادئ والمقاصد لا بالأشكال والأحكام والسابقات والقرارات المحددة”.

وتثير “أولويات المرحلة” إشكالية عند تطبيق الشريعة, ويشير المؤلف إلى أنّ الأولوية الأولى في النهضة وإعادة البناء بعد الثورة هي بناء الإنسان، وهذا هو الأساس في الإسلام, فإنسان اليوم يحتاج إلى إعادة صياغة بدنيًا ونفسيًا وسلوكيًا وتربويًا وسياسيًا وعقليًا ومجتمعيًا وعلميًا وحضاريًا، بل وإيمانيًا.

ولابد من الحرية أيضًا قبل تطبيق الإسلام, فإذا أردتُ من الناس أن يطبقوا الإسلام لابد أن أعرضه عليهم، ولهم أن يقبلوا أو لا يقبلوا، ومن أجل الاختيار لابد أن يكون لديهم الحرية للاختيار، فإن لم يكن لديهم الحرية، فلا يمكن فرض الإسلام عليهم بالقوة, فحينها سننتج منافقين ومنافقات، ولا معنى للثورة لأننا سوف نرجع إلى نقطة الصفر، أي مرحلة الدكتاتورية كما كانت قبل الثورة, ولكن في صورة جديدة.

الديني والمدني

ويثير غياب رأي الشريعة في بعض القضايا العامة تساؤلاً, وهو “هل أعطت الشريعة شرعية لتفرد الحاكم بالرأي؟”, ويجيب المؤلف على ذلك “تراثنا في السياسة الشرعية في هذه المسألة آن له أن تحدث فيه نقلة مهمة وأن يتجدد ويغير (ما يعود إلى الحاكم) إلى (ما يعود إلى الأمة)، و(حسب ما يرى الحاكم) إلى (حسب ما ترى الأمة). فلابد أن يتغير الحكم اليوم في قضية الشورى إلى أن تكون الشورى ملزمة وليست معلمة، أي أنه يجب ويفرض على الحاكم لا أن يستشير الناس فقط، بل وأن يأخذ بالرأي الذي تنتهي إليه الشورى كذلك”.

إلا أنّ تطبيق الشريعة ومبادئها, لن يتم بمعزل عن الدولة الحديثة التي اتخذت من المدنية سمة لها, ويرى المؤلف أنه لا تعارض بين مفهوم “المدني” ومفهوم “الديني”، فإذا تخيلنا المساحة بين المفهومين في دوائر متقاطعة وليست منفصلة, يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع؛ “الديني البحت”, أي المكونات الدينية الخاصة بأهل الدين وحدهم وليس لها علاقة ببناء الدولة ولا قوانينها, و”المدني البحت”, أي ما يخص الدولة ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية, مما ليس للدين تداخل (مباشر) معه, و”الديني-المدني”, أي ما للدين فيه أحكام تفصيلية خاصة تتعلق بالدولة أو مؤسسة من مؤسساتها أو علاقات المواطنين الخاصة بشكل مفصّل، وهذه الأحكام الأخيرة الأصل أن تتحول إلى قوانين عامة تلزم الجميع.

فالدولة المدنية المنشودة في مرحلة ما بعد الثورات تبنى أولا على العدالة الاجتماعية، لأنَّ الإنسان إذا عرف حقوقه المدنية واستقرت، فلن يتمكن سياسي أن يستبد ويتسلط عليه أو يتعدى على حقوقه الأساسية، لأن هذه الحقوق تصبح خطًا أحمرًا في ثقافة المجتمع، وإلا فإن المجتمع يثور ويعود مرة أخرى إلى الشارع والثورة، فلابد أن يتربي المجتمع على هذا.

الحوار الإسلامي العلماني

هذه النقاشات على الأسئلة التي تشغل المجتمع تتطلب حوارًا مجتمعيًا بين أطرافه, خاصة بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو حوار مهم ومفيد علميًا وعمليًا للطرفين, ويرى الكاتب أن “هناك أولوية للحوار الإسلامي-العلماني على الحوار الإسلامي-الإسلامي, ولا يعني ذلك تجاهل الثاني، ولكن الواقع أن الحوار الإسلامي السائد في الفترة الماضية كان حوارًا مع آخر غالبًا ما كان إسلاميًا أيضًا.

إذًا, لا نريد أن تكون الفكرة إسلامية تتعارض وتتناقض مع القدر المتفق عليه في المجتمع من الأفكار التي سموها المدنية فتقوض أركان المجتمع، ولا نريد للفكرة الإسلامية أن تتقوقع على نفسها أو تحاور نفسها فقط؛ لأنها بذلك سوف تجد نفسها تعيش في زمن آخر ترسمه حدود جغرافية وثقافة ونظم حكم تختلف تماما عن النظام العصري المدني المنشود ذي “المرجعية الإسلامية”.

تطبيق الحدود

فرّق المؤلف بين “الذنب” أي الإثم أو المعصية التي يرتكبها الإنسان مخالفًا لأوامر الله ونواهيه، وبين “الجريمة” التي قد تكون ذنبًا ولكن لها عقوبة مدنية, أما التماهي الذي يتوهمه البعض بين الذنوب والجرائم ليس إسلاميًا, وقواعد التشريعات المعاصرة في كل مكان قد استقرت على أنه “لا جريمة إلا بنص قانوني”، فإن العقوبة المدنية في هذا العصر معناها وجود قانون يجرم الفعل في حد ذاته ويحدد عقوبة عليه سواء من الهيئات التنفيذية مباشرة أو بعد حكم قضائي بشروط معينة.

كما فرَّقَ بين ما هو شرع وما هو قانون, فالشرع مصادره معروفة، والاختلافات والاجتهادات فيه معروفة، وقد يتفق العلماء أو يختلفون على سلامة تطبيق بعض أو كل هذه العقوبات اليوم. ولكنّ تحويل أحكام شرعية كأحكام الحدود إلى قوانين يعمل بها خاصة في البلاد التي لم تعرف ذلك من قبل هي مسألة أخرى، ويتوقف على الآليات الدستورية والتشريعية التي تسمح بولادة هذا القانون، وتتوقف –وهو الأهم- على توافق مجتمعي ساحق على ذلك، وهو ما لا يفترضه أحد في هذه المسألة اليوم.

والحدود الشرعية، تعد أقصى المدى في العقوبات الجنائية الإسلامية وليست هي كل ما هو متاح لها، أي أنها -بالتعبير المعاصر- عقوبات استثنائية في حالات طارئة خاصة وليست جرائم عادية, وهي لابد أن تكون منصوصًا عليها بنصوص صريحة قطعية، ولابد أن تكون مقدّرة وواضحة في أرقام وأشكال، وإلا فإن العقوبة تصبح تعزيرًا, فعقوبة شرب الخمر في الإسلام تعزير وليست حدًا كما يسميه البعض خطأ.

أما قضية “الجزية”, يرى المؤلف أنّ بعض الإسلاميين, يطرحونها في العصر الحديث, مفترضين أن الدول العربية المعاصرة دولًا “إسلامية” بالمعنى التاريخي للكلمة، وليس بمعنى معاصر يختلط فيه الديني بالمدني, فطبيعة الدول العربية المعاصرة ليست “إسلامية” بالمعنى التاريخي للكلمة، وإنما بمعنى معاصر يقوم على أن أغلب السكان مسلمون وأن الشريعة هي المصدر التشريعي الرئيس، وهذه الدول جميعًا قامت أيضًا حسب دستورها على المواطنة أو المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين (في غير الشعائر الدينية الخاصة بكل دين).

والجزية -تاريخيًا- كانت تدفع من غير المسلمين إلى الدولة كما تدفع الزكاة من المسلمين إلى الدولة، وهو عدل وقسط، بل كانت الجزية دائما أقل قيمة من الزكاة إذا حسبناها في أشكالها المختلفة على مدار التاريخ, واليوم فقد تغيرت الصورة ولا تُدفع للدولة لا الزكاة ولا الجزية.

الشريعة وقوانين الأسرة

وإذا كانت المساحة المتعلقة بالأحوال الشخصية تقع في مساحة التقاطع بين الديني والمدني، فالقول الفصل والنهائي فيها في حق المسلمين لابد أن يعود إلى علماء الشريعة المجتهدين، ولا يصح فيها من المسلمين الدعوى إلى ما يسمى “الزواج المدني”، ويقصدون به زواجًا لا يرتبط بالأحكام الدينية أيًا كانت.

وهنا يجب أن نفرق بين الأحكام الشرعية الصحيحة التي ينبغي أن تتحول إلى قوانين, فهي تتماشى مع روح الإسلام ومبادئه، وهناك أيضًا فتاوى مردودة على أصحابها يطلقها بعض المفتين رغم أنها ما أنزل الله بها من سلطان، فضلًا عن أنها تضيع العدل والرحمة والمصلحة الشرعية.

ويخلص المؤلف إلى أن تأييد الاجتهاد والتجديد في قضايا الأحوال الشخصية لا يعني الاستسلام للمؤامرات التي تحاك للمسلمين باسم العولمة والتي تهدف إلى محو وطمس معالم ثقافة المسلمين عن طريق دمجها بثقافات لأصحاب القوى العظمى في العالم.