يقترح هذا البحث توظيف منهجية مقاصدية للاجتهاد، ويضرب أمثلة على إعمال المقاصد في الاجتهاد في مسألتين أصوليتين مهمتين، هما: حل التعارض الظاهري بين روايات الحديث النبوي، وفهم دلالة الأحاديث عن طريق النظر إلى المعاني والغايات المقصودة من ورائها. وينتقد البحث في ثناياه المنهجية التي تقتصر على الدلالات الظاهرة للألفاظ، دون معانيها المقصودة التي يستدل عليها بالسياق، كما يبطل المنهجية التي تدّعي “تأرُّخ” (أو تاريخانية) النص الشرعي من كتاب وسنة، بحجة فصل الدال عن المدلول، أو ما سمي بعملية التفكيك.
الكلمات المفتاحية: المنهجية المقاصدية، مقاصد الشريعة، الاجتهاد، حل التعارض، دلالة اللفظ، التفكيك، التاريخانية.

مقدمة:
انتقد عددٌ من العلماء المعاصرين عِلمَ أصول الفقه في درسه التقليدي؛ نظراً إلى عدم ارتباطه الواضح بمقاصد الشريعة الإسلامية وأغراضها. فكتب –مثلاً- الشيخ عبد الله دراز في مقدمة هوامشه المهمة على موافقات الشاطبي أنّ الفقهاء أغفلوا عِلْمَ أسرار الشريعة ومقاصدها إغفالاً، “مع أنَّ هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جُلبت إلى الأصول من علوم أخرى.” وكتب الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه عن مقاصد الشريعة يقول: إنَّ “معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكِّن العارف بها من… تأييد فروعٍ انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول.” وقد وصف ابن عاشور الأصوليين عموماً في كتابه عن إصلاح التعليم “بالغفلة عن مقاصد الشريعة.” وكتب الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام الشافعي يقول: إنَّ “علماء الأصول من لدن الشافعي لم يكونوا يتجهون إلى بيان مقاصد الشريعة العامة… فكان هذا نقصاً واضحاً في علم أصول الفقه؛ لأنَّ هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه.” 
وإذا كان لهذا النقد وأمثاله وجاهةٌ في ما يتعلق بنظريات الأصول المدوَّنة في كتب أصول الفقه، فإنَّنِي لا أراه ينطبق على استنباط الأحكام نفسها في مذاهب الفقه الإسلامي؛ إذ إنَّ اعتبار المقاصد الشرعية في استنباط الأحكام العملية قد اتخذ أسماءً مختلفة اتَّفقت في المعنى، وإن اختلفت في الألفاظ، مثل اعتبار مناسبة العلة عند الشافعية (وهو المعنى المقاصدي الذي ناطوا به الحكم وجوداً وعدماً)، واعتبار المصلحة أصلاً للاستحسان عند الحنفية (وهو أيضاً معنى مقاصدي يقاس عليه الحكم، وإن خالف العلة الظاهرة المنضبطة)، واعتبار مفهوم “المصلحة” الذي طالما رجع إليه المالكية ومتأخرو الحنابلة في فهمهم للنصوص واستنباط الأحكام منها، واعتبار أصول الاستصحاب المختلفة عند من أخذ بها من الظاهرية وغيرهم (وهي كذلك معان مقاصدية يبنون عليها الأحكام). 
ثم إنّ الفقهاء أخذوا معاني أخرى نجدها شائعة عندهم، وإن لم يفردوها بالحديث، كغرض الشارع، وما أراد الشارع، وما تشوّف الشارع إليه، وحتى تعبير المصلحة المرسلة، وهو الذي لا يصح حصر المقاصد الشرعية تحته؛ لأنَّ مصطلح “المصلحة المرسلة” يُقْصَدُ به مصلحة لا يشهد لها دليل خاص باعتبار ولا بإلغاء، وهذا لا ينطبق على المقاصد التي تشهد لها النصوص، بل هي مستقراة من النصوص بنوع من التواتر قد يكون أقوى من الدليل الخاص.
وقد وصاحَبَ النقد المذكور لعلم الأصول محاولات منهجية لتجديد أصولي معاصر عن طريق المقاصد، كان أبرزها توظيف المقاصد في “إخراج النظر الفقهي من الجزئيةِ إلى الكلية”، و”توسيع القياس”، وما شابه ذلك من المصطلحات. وجدير بالذكر أنَّ هذه الأطروحات التجديدية قد بَنَت على ما نبّه عليه أئمة الأصول من قديم، من مراعاة للمصالح الكلية في الاجتهاد، وهو ما عبَّر عنه الإمام الجويني مثلاً بالقياس الكلِّيِّ، وعبَّر عنه الإمام الشاطبي بثبوت القواعد الكلية في مقابل آحاد الجزئيات. 
أما في البحث المعاصر، فقد كتب الدكتور القرضاوي عن “أهمية الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية”، وعن “التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة.” واقترح الدكتور حسن الترابي ما أسماه “القياس الواسع”، وهو: “أن نتسعَ في القياس على الجزئياتِ، لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جُمْلَتِها مقصداً معيّناً من مقاصد الدين أو مصلحةً معيّنةً من مصالحه، ثم نتوخَّى ذلك المقصد حيثما كانت الظروف والحادثات الجديدة، وهذا فِقْهٌ يقرِّبنا من فقه عمر.” ودعا الدكتور حسن جابر إلى منهج تحكم فيه كليات المقاصد على جزئيات الفقه. وأصّل الدكتور طه جابر العلواني لما أسماه “بفقه المقاصد”، الذي: “ينطلق من منهج استقرائي شامل، يحاول الربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام، دلَّت على اعتبار الشرع له الكثيرُ من الأدلَّةِ، وتضافرت عليه العديدُ من الشواهد، وبذلك يُعتبر هذا القانون الكلي مقصِداً من مقاصد الشريعة، فيتحوَّل إلى حاكم على الجزئيات، قاض عليها بعد أن كان يستمدُّ وجودَه منها.” ورفض الدكتور محمد سليم العوا تسميةَ تصرُّفاتِ الصحابة -التي نذكر بعضها لاحقاً- تغييراً للأحكام، وفضَّل تسميتها: “اتّباعَ رسول الله في إِدَارةِ الأحكامِ على الـمَصَالحِ، والعملِ بِها ما أدَّت إلى تحصيلِ مقصودِها.” 
وإنني في ضوء هذه الاجتهادات القيّمة، سأقترح في ما يأتي طريقتين للاجتهاد المقاصدي، في مجالين من مجالات استنباط الأحكام المهمة، هما: دلالات النصوص، وحل التعارض. 

أولاً: دلالة النص بين مدرسة الظاهر ومدرسة التَّأَرُّخ 
تقف المناهج المعاصرة موقفين متناقضين من قضية الدلالة، بين الاقتصار على دلالات ألفاظ النصوص، وإهمال النصوص الشرعية جميعاً من باب “التَّأرُّخ”. أما دلالة العبارة، حسب تعبير الأحناف ومن تبعهم، أو دلالة الصريح أو المنطوق، حسب تعبير الشافعية ومن تبعهم، فهي ملزمة للمكلف ما لم يرد نصٌ بتخصيصٍ أو نسخ، على تفصيل في ذلك عند مذاهب الأصول. وأَوْضَحُ أنواعِ الألفاظ هو اللفظُ المحكَم، ثم يليه النصُّ (أو الظاهر)، ثم اللفظُ المفسَّر (ووضوحه حسب ما يفسره). ولكنّ الاقتصار في استنباط الأحكام على هذه الدلالات المذكورة، ووضع اللفظ المفسر (أي الذي يحتاج إلى ما يفسره) في آخر قائمة الألفاظ من حيث وضوحها، حدَّ من مدى الاجتهاد والتجديد المتاحَيْن. وصدقت مقولة شيخ الزيتونة الطاهر بن عاشور إن الأصوليين “قَصَرُوا مباحثَهم على ألفاظ الشريعة.” 
وأما التَّأَرُّخُ فهو مفهومٌ ظهر في اتجاهات “ما بعد الحداثة” الفلسفية، يفصل بين الدال والمدلول عن طريق ربط النصوص المكتوبة -أياً كانت- كلياً وجزئياً بسياقها التاريخي، وبما يطرأ على هذا السياق من تطور تاريخي. وقد طبق الألسنيون المعاصرون هذا المفهوم لتحقيق ما أسموه “بتفكيك النص”، مقدساً كان أو غير مقدس؛ أي عن طريق تحليل الإطار الثقافي والتاريخي للألفاظ. وتبعهم في ذلك مسلمون دعَوا إلى مدرسة “تَّأرُّخية إسلامية”، تُسْقِطُ وتُنْهِي ما أسمَوْه سُلْطَةَ النص. ورأوا أنه لا ينبغي الالتزام بالتفسير التقليدي للنصوص، ولا إعادة تفسيرها حسب العصر؛ لأنَّ ذلك عندهم يعزز “الأصولية المبنية على النص”. بل دعا بعضهم إلى استبدال مفاهيم الحرية والطبيعة والعقل بالمفاهيم (التَّأَرُّخيَّة) مثل الجنة والنار والآخرة. 
والخطأ الذي وقع فيه “الـمُأَرِّخون” هو قياس النصوص والمؤلفات البشرية التي هي فعلاً محصِّلة الثقافات والتصوُّرات المتغيّرة، على النص الإلهي الذي يختلف في مصدره ومقاصده عن مصادر البشر ومقاصدهم. ومِنْ ثَـمَّ فمفهوم “تأرُّخ القرآن” لا يتفق مع الإيمان بقداسة كلام الله ووَحْيه المباشر إلى نبيِّه . ومآلُ هذا المفهوم هو فقدانُ الأمة مصدرها المعرفي الرئيس، وسقوطها في شَرَك الانقياد الأعمى لغيرها من الأمم. 
والمقاصد الشرعية تعزز من مفاهيم العقل والعدل والعلم والحرية (التي ينادي بها الناس جميعاً)، ولكنَّها لا تضعُها في وضع مناقض أو متحدٍّ لمفاهيم الإيمان والعبادة والجنة والنار وغيرها من لوازم الإسلام، وهي لا تُماري في “سلطة النص”، ولكنها تحقق مناط النص في موضعه الصحيح، تبعاً لمقصود الشارع الحكيم. 
1. أصل في “دلالة المقصد”: حديث (صلاة العصر في بني قريظة):
ورد في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: “قال النبي لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصَلِّي حتى نأتيها، وقال بعضُهم: بل نصلِّي! لم يُرِدْ منا ذلك [أي أنه أراد الإسراع]. فذُكِر للنبي ، فلم يعنِّف واحداً منهم.” وفي رواية مسلم: “وقال آخرون: لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله وإن فاتنا الوقت.” 
هذا الحديث الثابت أصلٌ مهمٌّ في جواز استنباط مقصِدٍ (جزئي) من نصٍّ شرعي بالظن الغالب، وفي جواز إدارة الحكم العملي مع هذا المقصِد المستنبط وإن خالف دلالة الظاهر. فالصحابةُ الذين قالوا إنَّ رسول الله إنما قَصَدَ إلى الإسراع وليس إلى عين الصلاة في بني قريظة، خالَفوا دلالة الظاهر -وهي الأمر الذي يقتضي الوجوب- بصلاتهم في الطريق، والذين أصرُّوا على الصلاة في بني قريظة ولو بعد وقت الفريضة، استمسكوا بحرفية الأمر، ووكّلوا القصد منه إلى الله ورسوله. أما إقرارُ رسول الله لعمل الفريقين، فهو أصلٌ ودليلٌ على جواز الأمرَيْن والمنهجَيْن. وسوف نَعُدُّ “دلالة المقصد” (وهي فرع من “دلالة الغاية” كما هي عند الحنفية) في الأمثلة التالية، احتذاءً بهذا الأصل.
2. دلالة المقصد في: “ليس على المسلم في فرسه صدقة”:
“روى عبد الرزاق عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول: ابتاع عبد الرحمن بن أمية من رجل من أهل اليمن فرساً أنثى بمائة قلوص، فندم البائع، فلحق عمر فقال: غصبني يعلى وأخوه فرساً لي. فكتب إلى يعلى أن الحق بي، فأتاه فأخبره الخبر، فقال: إن الخيل لتبلغ هذا عندكم! ما علمت أن فرساً يبلغ هذا، فنأخذ عن كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئاً، خذ من كل فرس ديناراً. فقرَّر على الخيل ديناراً ديناراً.” 
وقد كتب الشيخ القرضاوي في “فقه الزكاة” يقول: “إنَّ الزكاة إنما شُرِعَتْ لسَدِّ حاجة الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل، ولإقامة المصالح العامة للمسلمين كالجهاد في سبيل الله وتأليف القلوب على الإسلام… ومن المستبعد أن يكون الشارع قد قَصَدَ إلقاءَ هذا العبء على مَنْ يَملك خمساً من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسةَ أَوْسُقٍ من الشعير ثم يعفي كبار الرأسماليين.” ثم قال: “قصة عمر مع يعلى بن أمية لها في نظري أهميةٌ بالغةٌ في باب الزكاة. فقد دلَّ تصرُّف عمر على أنَّ للقياس فيها مدخلاً وللاجتهاد مسرحاً، وأنَّ أَخْذَ النبيِّ الزكاة من بعض الأموال لا يمنع مَنْ بَعْدَهُ أن يأخذوها من غيرها مما ماثلها، وأنَّ أيَّ مالٍ خطيرٍ نامٍ يجب أن يكونَ وعاءً للزكاة، وأنَّ المقادير فيما لا نصَّ فيه تخضع للاجتهاد أيضاً. هذا وقد أجاب الجمهور عن هذه القصة بأن ذلك اجتهادٌ من عمر، فلا يكون حجة.” 
وقد تشدد “الظاهرية” في عدم اعتبار مقاصد الزكاة المعقولة المعنى، وحصروا الزكاة في الأصناف المذكورة في حديث رسول الله فقط ولم يعتبروا غيرها. قال ابن حزم: “لا زكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط، وهي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وماعزها فقط… وفيها جاءت السُّنَّة… ولا زكاة في شيء من الثمار ولا من الزرع ولا في غير ما ذكرنا ولا في الخيل ولا في الرقيق ولا في العسل ولا في عروض التجارة.” 
وعلى هذا، فعمر لم يقتصر على دلالة الظاهر (أو دلالة النص) في الحديث الذي رواه الجماعة “ليس على المسلم في فرسه صدقة،” وهو –بتعبير الأصوليين- لفظ عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء. وإنما فهم عمر المقصد الاجتماعي والاقتصادي من الزكاة وسعى لتحقيقه عن طريق المرونة في وعاء الزكاة حسب تغيّر البيئة وقيم الممتلكات. وهذا الاجتهاد يحقق أيضاً مقصد عالمية الشريعة، التي لم تنـزل لبيئة العرب وحدها، وإنما نـزلت لكل زمان ومكان، وهو تجديد منضبط ومطلوب، وإلا فوّتنا مقاصد الزكاة، وتجاوزنا العدل الذي هو عمدة المقاصد العامة والخاصة.
3. دلالة المقصد في: “من قتل قتيلاً فله سَلبُه”:
“عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله، فبلغ سَلَبُه ثلاثين ألفاً. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نُخَمِّسُ السَلَبَ، وإنّ سَلَبَ البراء قد بلغ مالاً كثيراً ولا أراني إلا خَمَّسْتُه.” ولكنّ الفقهاء اختلفوا في تفسير فعل عمر ، وقد رَصَدَ ابن رشد هذا الخلاف فقال: “قال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة من السلف: واجبٌ للقاتل؛ قال ذلك الإمام أو لم يقله”. ثم علّق ابن رشد: “وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال: من قتل قتيلاً فله سَلَبُه، أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النَّفْل أو على جهة الاستحقاق للقاتل.” 
ولفظ الحديث أيضاً عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء، حسب تعبير الأصوليين. ولكنّ عمر فهم دلالة قول النبي في إطار مقاصد الإمامة، فنظر إلى المصالح والمفاسد وليس إلى ظاهر الدليل. فلو لم يخمّس هذا السلَب الكبير لضاع على المسلمين ثرواتٌ كبيرةٌ، ولقصد كل محارب ذوي الأسلاب الكبيرة فقط دون مَنْ سواهم ابتغاء عرض الدنيا، وهو ما يناقض أيضاً المقاصد الشرعية الخاصة بباب الجهاد حسب التقسيم الذي ذكر آنفاً. ذكر القرافي في “فروقه” ما يأتي: “الفرق السادس والثلاثون: بين قاعدة تصرفه بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمام… تصرفاته بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة… [أما] بعث الجيوش… وصرف أموال بيت المال… وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود… فهذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل شيئاً من ذلك علمنا أنه تصرف فيه بطريق الإمامة دون غيرها.” 
4. دلالة المقصد في: “والمؤلفة قلوبهم”:
روى الجصَّاص في أحكام القرآن: “جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إنَّ عندنا أرضاً سَبْخَة، ليس فيها كلأٌ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها. فأقطَعَها إياهما، وكتب لهما عليها كتاباً وأشهد -وليس في القوم عمر- فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما. فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَلَ فمَحَاه، فتذمَّرا وقالا مقالةً سيئة، فقال: إنَّ رسول الله كان يتألَّفُكُما والإسلام يومئذٍ قليل، وإنَّ الله قد أغنى الإسلام.” ولكن بعضهم فهم من هذا أن عمر قد “نَسَخَ الحُكْم”. ولكنَّ ابنَ الهمام رَدَّ على القائلين بالنسخ في هذه المسألة بقوله: “العِلَّة للإعزاز، إذْ يُفعل الدَّفْعُ ليحصل الإعزاز، فإنما انتهى ترتُّبُ الحكم -الذي هو الإعزاز- على الدَّفْع الذي هو العِلَّة. وعن هذا قيل: عدم الدَّفْعِ الآن للمؤلَّفة تقريراً لما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا نَسْخ، لأن الواجب كان الإعزاز، وكان بالدفع، والآن هو في عدم الدفع.” 
ورغم تأييدي لرأي ابن الهمام أن دعوى النسخ باطلة، إلا أن الإعزاز هنا مقصِد وليس علة، حسب التعريف الأصولي للعلَّة بأنها “وصفٌ ظاهرٌ منضبط”؛ لأن الإعزاز وصفٌ متغيّرٌ بتغيُّر الأحوال، ومن ثم فهو غير منضبط. وعلى هذا فعمر قد فهم علَّة النص ودلالة الآية من خلال المقصد، لأنه اعتبر الظروف التي تغيرت، فأصبح تَقَوِّي المسلمين بهؤلاء المؤلفين غير مطلوب (في زمانه).
وهذه الأمثلة السابقة كلُّها تدل على ما وراءها. والمقاصد، إذن، تُقدِّم منهجاً وسطاً يدور مع متغيِّرات الواقع في بُعْدَي الزمان والمكان. كتب الإمام الشاطبي يقول: “الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح. فلينظر المقلِّد أيَّ مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار. وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بدّ منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى وأقرب إلى تحرِّي قصد الشارع في مسائل الاجتهاد. فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقاً: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السُّنَّة، فإن كان ثمَّ رأي بين هذين فهو الأولى بالاتّباع.” 

ثانياً: حل التعارض بين مسلك النسخ ومسلك تحقيق المقاصد على اختلاف الظروف
اتفق المنطقيون والأصوليون والمحدِّثون على تحديد نوعين مختلفين للتعارض، وإن اختلفت مسمياتهم لهما، الأول هو التعارض في نفس الأمر، ويُطلق عليه أيضاً اسم: التناقض المنطقي، والتقابل المنطقي، والتعارض الحقيقي، والثاني هو التعارض في نظر المجتهد، أو ذهن العالم، ويطلق عليه اسم: التعارض الظاهري، والاختلاف. 
أما التناقض المنطقي في نفس الأمر، فعرَّفه السَّرخسي بقوله: “تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى، كالحِلِّ والحُرمة، والنفي والإثبات.” وهذا لا يجوز على النصوص الشرعية؛ سواء كتاب الله تعالى أو كلام رسوله، إلا ما قد يحدث من تناقض في روايات الحديث، “بما يحصل من خلل بسبب الرواة،” كالذي أخرجه أحمد أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: “إن أبا هريرة يحدّث أن نبي الله كان يقول: إنما الطِّيَرَةُ في المرأة والدابَّة والدَّار”. فقالت: “والذي أنـزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن كان نبي الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطِّيَرَة في المرأة والدار والدابة.” وهذا لا يحتمل إلا صحة إحدى الروايتين وعدم صحة الأخرى. ولكن هذا النوع من التناقض نادر وأثره في الفقه محدود. 
أما الغالبية العظمى من حالات التعارض التي لها أثر في الفقه فهي حالات تعارض ظاهري، وهو “ما يبدو لأفهامنا أنه تعارض، مع أنه ليس تعارضاً في الحقيقة.” وتَعامل العلماء مع هذا النوع من التعارض باتباع طرق منهجية، رتبت على هيئة خطوات محددة اختلف العلماء في ترتيبها. وهذه الطرق هي: الجمع، والنسخ، والترجيح، والتوقف، والتساقط، والتخيير. 
أما ترتيب العمل بهذه الطرق المنهجية فالخلاف فيه متشعب. ولكن، ظهر لنا -من استقراء حالات التعارض المتنوعة- أن العمل بالتوقف والإسقاط والتخيير كان نادراً. وأما الأَولى من هذه الطرق، فهو عند العلماء بين الجمع وهو رأي الجمهور، والنَّسخ وهو رأي الأحناف. ولكن إحصاء حالات التعارض في علم مختلف الحديث يُظهر أن الجمع كان قليلاً، رغم أولويته نظرياً، وأن الفقهاء استخدموا النَّسخ في غالب أحوال التعارض، واستخدموا الترجيح أحياناً. ولكن المقاصد الشرعية يمكنها أن تقدم منهجاً للجمع بين المتعارض وإعمال كل النصوص –وهو أولى باتفاق- كما يظهر في ما يلي من الأمثلة.
1. فهم التصرفات النبوية عن طريق ملاحظة المقاصد:
اشتهرت في كتب الأصول أمثلة على أحكام إباحة لثلاثة أمور عُدّت “ناسخة” لما قبلها من أحكام بالنهي تعارضت معها، حسب فهم كثير من الأصوليين، وهي: الانتفاع بلحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، والانتباذ في كل وعاء إلا مسكراً، وزيارة القبور. وهذه أطراف من روايات الحديث المتعلقة بتلك الأحكام. 
فقد روى مسلم في باب سمّاه: ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه إلى متى شاء، يقول : “إنما نهيتكم من أجل الدّافة التي دفّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا.” فرأى الجمهور في هذه المسألة تعارضاً بين حكمي التحريم والتحليل، ولذلك قالوا بلزوم النَّسخ. إلا أن عائشة -رضي الله عنها- مثلاًلم تر في الأمر نسخاً، وأوضحت أن النهي لم يكن للتحريم، وإنما كان القصد منه التوسعة ليس إلا، فقالت: “لم يكن حرَّمها، ولكنَّه أراد التوسعة على الدافّة التي قد دفّت عليهم.” وهذا نص صريح على أن النهي الأول لم يكن للتحريم رغم لفظ النهي، وأن قضية مرور ثلاثة أيام ليست هي العِلّة المقصودة، وإنما العِلّة كانت سدّ جوع بعض المسلمين المحتاجين، وهو نفسه مدار الأمر الإلهي المتعلق بالمسألة. قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج: 28). 
ولو وسّعنا مجال الاستنباط الفقهي ليتجاوز المنطق الثنائي التبسيطي في مذهب النسخ، وتفكّرنا في المقصد الشرعي العام لروايات لحوم الأضاحي، لوجدنا في هذه الأحاديث دلالة على أن للإمام المسلم صلاحيات -بل واجبات- في اتخاذ تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، مثل حفظ النفوس من ضرر الجوع عن طريق نشر معاني التكافل بين المسلمين، كما في هذا المثال، مع موازنة ذلك بأصل إباحة التملك الحر وانتفاع الناس بما يتمولون على المستوى الفردي. وهذا المسلك في فهم الأحكام الشرعية يقربنا من منهج عمر بن الخطاب الفقهي والسياسي، ويساعدنا على توظيف هذه النصوص في بناء المجتمع الإسلامي الذي يوازن بين الحقوق الفردية والمصالح العامة في ضوء من مقاصد الشريعة.
أما قضية التعارض في “الانتباذ”، فقد روى ابن حبّان في صحيحه -في باب سَمَّاه “ذكر العِلَّةِ التي من أجلها زُجِر عن الشرب في الحناتم”- عن أبي هريرة قال: “نهى رسول الله وفد عبد القيس عن النبيذ في الدّباء، والحنتم، والمزفّت، والنقير، والمزادة المجبوبة، وقال: انبذ في سقائك وأَوْكِه ] أي اتركه[ واشربه حلواً طيباً، فقال رجل: يا رسول الله ائذن لي في مثل هذه، وأشار النضر بكفه، فقال: إذاً تجعلها مثل هذه، وأشار النضر بباعه، قال أبو حاتم: قول السائل ائذن لي في مثل هذا أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها، فلم يأذن له النبي مخافة أن يتعدى ذلك باعاً، فيرتقي إلى المسكر، فيشربه.”
اعتبر الفقهاء أن “العِلّة” من التحريم هي الأوعية المذكورة، ولذلك رأوا في الأمر تعارضاً اقتضى القول بالنّسخ. أما إذا نظرنا إلى المعنى المقصود، فسنجد أن القوم كانوا يستخدمون هذه الأوعية المخصوصة لصنع ما يُسكر، فقصد رسول الله إلى تربية أصحابه بسدِّ ذريعة الشراب المسْكِر مدّة من الزمان، ثم حين تدربوا على ترك ذلك الشراب المسْكِر ردّهم إلى الأصل -وهي القاعدة العامة- أن كل مُسْكِر حرام، فالقضية، إذن، كانت قضية تربوية بسدِّ الذرائع في المقام الأول. 
أما بالنسبة إلى النهي ثم الإباحة في مسألة زيارة القبور، فقد علّق البيضاوي على ذلك قائلاً: “فزوروها… الفاء متعلق بمحذوف أي: نهيتكم عن زيارتها مباهاة بالتكاثر فعل الجاهلية، أما الآن فقد جاء الإسلام وهدمت قواعد الشرك، فزوروها فإنها تورث رقة القلب وتذكّر الموت والبِلا.” فقد كانت قبائل مكة ويثرب -على حد سواء- تتفاخر بآبائها إلى حد زيارة المقابر للإشارة إلى قبر فلان أو فلان بدلاً من اتخاذها عبرة وعظة. فقصد النبي إلى حفظ الدين، بمعنى العقيدة السليمة، في أمره الأول من عدم زيارة المقابر. ثم إنه أذن لهم في الزيارة -وهو الحكم الأصلي- بعد أن ذهبت نعرات الجاهلية، وأوصاهم بعدة وصايا عند الزيارة، كان منها ألا يقولوا هجراً، حتى لا يعودوا إلى مثل قول الجاهلية. وهذه القضية تشبه قضية الانتباذ في قصد التربية بسدِّ ذرائع المعصية، والقضيتان تشتركان مع قضية الأضاحي في الدلالة على وجوب اتخاذ الإمام المسلم تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية.
وهذه الأمثلة الثلاثة تدل على ما وراءها من التصرفات النبوية الشريفة في الأمور السياسية، والاقتصادية، والتربوية، والعسكرية، والصحية، والبيئية، التي قد تختلف حسب الظروف التي عايشها على مدار مراحل الرسالة المختلفة، ومن ثمّ تصل إلينا في صورة “نهي بعد إباحة”، أو “إباحة بعد نهي”. ولكننا ينبغي أن نفهمها كلها في إطار واحد من مقاصد الإمامة في حفظ عقائد الناس وأموالهم ونفوسهم، دون حاجة إلى مسالك النَّسخ والترجيح بين نصوص كلها ثابتة محكمة. 
إنَّ النصوص الشرعية من كتاب وسنة هي عماد الشريعة، ونسخها وإلغاء تأثيرها إلى الأبد لا بدّ أن يكون منصوصاً عليه صراحة حتى لا يُفتح الباب لإبطال معالم الشريعة بمجرد الرأي، كما حدث قديماً وحديثاً! أضف إلى ذلك أن الآيات والأحاديث التي ادُّعي نسخها قد أُبطل عملها التشريعي، على الرغم من أنها آيات محكمات أو أحاديث بينة ثابتة، أراد لها الشارع أن تعمل في حالات وظروف غير حالات الآيات وظروفها التي ادُّعي أنها نسختها. وقد أدى هذا الإبطال لكثير من النصوص الشرعية إلى تقييد قدرة الفقهاء على تغيير الفتاوى اعتماداً على النصوص، ومن ثمَّ قدرتهم على التعامل مع ما يجدّ من حوادث، وأدى أيضاً إلى تقييد قدرة الأصوليين على استنباط القواعد الكلية والمقاصد العالية من مجموع الجزئيات، وكل ذلك أدى إلى تقليص التَّجدُّد والمرونة في الفقه الإسلامي كما أرادها الشارع سبحانه وتعالى. 
2. حل التعارض عن طريق اعتبار التنوع المقصود:
من رحمة الشارع -عزّ وجل- أن جعل السماحة والتيسير من مقاصد الشريعة. ومن التيسير والسماحة أن راعى الشارعُ التنوع في المكلفين، فجعل الشريعة عالمية باعتبار بُعد المكان، وخالدة باعتبار بُعد الزمان، وهي بذلك تشمل الناس جميعاً. وقصد الشارع الحكيم أيضاً إلى أن تتنوَّع أشكال الأحكام وصورها من أجل استيعاب ذلك التنوع في الناس وبيئاتهم وأزمانهم، بل وتنوع قدراتهم البشرية. والحق أنه لا دليل على الفرضية المسبقة عند كثير من الفقهاء؛ أن لكل حكم وكل عبادة صيغة واحدة لا تتنوع، ولو قصرت أفهامنا عن الوصول إلى حكمة هذا التنوع على التفصيل، مما أدّى بهم إلى ضروب من توهم التعارض في كثير من الأحوال، وضروب من التناسخ والترجيح غير المنهجي بين نصوص كلها محكمة ثابتة سنداً ومتناً. 
ومثال ذلك مسألة رفع اليدين في الصلاة، التي اشتهرت بها مناظرة الإمامين أبي حنيفة والأوزاعي، حين قال الأوزاعي: “أُحدِّثك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وتقول حدثني حماد عن إبراهيم؟” فرد أبو حنيفة: “كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمةَ ليس بدونٍ من ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر فضل الصحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله عبد الله.” هذا على الرغم من أن الحديثين -موضع الخلاف- صحيحان في أعلى درجات الصحيح سنداً ومتناً، ولا داعي “للانتصار لأحد المذهبين”، كما ذُكر؛ وكالذي ورد في روايات التَّشهُّد المختلفة، وتوقيت سجود السَّهو، وصيغ التكبير في صلاة العيد، وصيغ صلاة الخوف، وما كان على الخيار في الكفارات، ككفارة الجماع في نهار رمضان، وغيرها من الأحكام. 
ومن مقتضيات مقصد السماحة الذي يقتضي اعتبار التنوع أن يُعتَبَر حال المكلف بالحكم، من حيث قوته أو ضعفه، وشبابه أو هرمه، وغناه أو فقره، وأمن الفتنة منه من عدمها، وهكذا. ومثال ذلك حكم حضانة الأم إذا تزوجت، الذي ألحق بالمتعارض؛ نظراً إلى اختلاف الروايات فيه، وأدى إلى ضروب من الترجيح للانتصار لأحد الرأيين، على الرغم من أن المسألة مدارها -كما يرى كثير من العلماء- على “مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قُدمت عليه… وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا.” وكالتعارض في حكم الأضحية بين الوجوب وعدمه، على الرغم من أن الأوزاعي وأبا حنيفة واللَّيث ذهبوا إلى أن الأضحية واجبة على الموسر فقط، وهو رأي يُعمل الروايات الصحيحة كلها عن طريق مراعاة حال المخاطب بالحديث، وهي مراعاة مقصودة لتنوع الناس وإمكاناتهم. وقس على ذلك.
3. حل التعارض عن طريق اعتبار التدرج المقصود:
من سنن الله تعالى في الفطرة البشرية صعوبة التغيُّر، خاصة فيما يتعوده الإنسان. والصحابة كانوا قد تعوّدوا قبل الإسلام عادات صارت جزءاً من حياتهم. فلمّا جاء الإسلام بآداب وأحكام تتناقض مع بعض هذه العادات كان من رحمة الله تعالى، ومن حكمة رسوله التدرج في تطبيق هذه الأحكام. وكان هذا التدرج من المقاصد والسمات العامة في عهد الرسالة، ومثال ذلك ما حدث من تدرج في تحريم الخمر والربا على مراحل بدأت جزئية وانتهت إلى الاجتناب التام، والصلاة مرتين ثم خمس مرات، وصيام بضعة أيام في العام ثم فرض صيام رمضان كله، وإباحة التكلم في الصلاة ثم تحريمه. 
وتسمية مراحل التطبيق “أحكام منسوخة” تسمية غير دقيقة. فلم يكن هناك قط “حكم شرعي” يبيح الخمر في الليل أو الربا غير المضاعف، وإنما حكم الخمر والربا واحد في دين الله وهو التحريم، ولكن التطبيق كان تدريجياً. كما أن تسمية مراحل التطبيق أحكاماً منسوخة أو ملغاة يقتضي عدم جواز إعمالها بحال، وهو ما أثبت استقراء الروايات عن رسول الله خلافه. فقد وجدنا في كلٍّ من حالات التدرج التطبيقي رواية أو أكثر تثبت أن الحكم المتأخر بقي أصلاً، ولكن الحكم المتقدم بقي صالحاً في حالات خاصة، أو على سبيل الرخصة؛ كالذي رواه أبو داود وأحمد عن عبد الله بن فضالة عن أبيه قال: “علمني رسول الله فكان فيما علمني أن قال: حافظ على الصلوات الخمس، فقلت: هذه ساعات لي فيها اشتغال، فحدِّثني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، قال: حافظ على العصرين، قال: وما كانت من لغتنا قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها.” ولأحمد في مسنده رواية مشابهة ترجم لها الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في الفتح الرباني بعنوان: “فصل في ترغيب المشركين في الإسلام وتأليف قلوبهم.” ومثله حديث أبي داود عن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: اشترطتْ على النبي أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي بعد ذلك يقول: “سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.” 
وقصد التَّدرُّج في تطبيق الأحكام سُنَّة نبوية مهمة لها فائدة عملية في الواقع، خاصة في حالات التطبيق العام للأحكام في مجتمعٍ ما، بعد طول بُعْدٍ من الناس عن هذه الأحكام، وفي حالات المسلمين الجدد. يقول الشيخ محمد الغزالي عمّا أسماه “التناقض المتوهم” في مذاهب النّسخ: “التشريعات النازلة في أمرٍ ما، مرتَّبَةٌ ترتيباً دقيقاً بحيث تنفرد كل آية بالعمل في المجال المهيأ لها… فهل هذا التَّدرُّج في التشريع يسمى نسخاً؟ إنَّ الأدوية تبقى ما بقيت الأدواء المرصودة لها، والدواء الذي ينجح في علاج حالةٍ ما، ربما لا يذكر في علاج حالة أخرى مخالفة، وهذا لا يُعد غضاً من قيمته. بل إنَّ المرض الواحد قد يحتاج إلى سلسلة متعاقبة من الأدوية، تستقيم مع مراحل سيره، وضروب مضاعفاته وأعقاب الخلاص منه… ونصوص القرآن لا تخرج عن حدود هذا الشبه! وقد عجبنا من استشراء القول بالنسخ عند المفسرين.” 
4- حل التعارض عن طريق اعتبار مقصد العالمية:
لفظة العُرْف وردت في قوله سبحانه وتعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الاعراف: 199). وقد اختلف المفسرون في معنى العُرْف الوارد في هذه الآية فيما يمكن حصره في قولين: قول يعمم العُرْف فيُدخل فيه “ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة،” وقول يحصره في “المعروف”، وهو مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، وهو الرأي الذي ذهب إليه أغلب الأصوليين. وقد أقرّ الرسول الأعراف -بمعنى العادات القولية والفعلية- السائدة في قومه، ما لم تتعارض مع المعروف -بمعنى الأخلاق والمبادئ الإسلامية-. وهذه الأعراف ليست جزءاً من الشريعة المنَـزّلة، بمعنى أن الرسول لم يقصد أن تكون العادات التي أقرّها هي الطرق الوحيدة الممكنة لتحقيق المقاصد. ويظهر ذلك بوضوح في بعض الأحاديث التي حسبها بعض الناس “متعارضة” ورجّحوا بعضها على بعض، على الرغم من أنها ليست متعارضة في نفس الأمر، وإنما هي نوع من إدارة الأحكام مع ما تعارف عليه الناس من عُرف بهدف تحقيق المقاصد الشرعية؛ كالذي ورد في ترجيح جمهور الفقهاء حديث عائشة (الصحيح)، أنها قالت: “قال رسول الله : “أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل، كررها ثلاثاً”، على حديث ابن عباس (الصحيح أيضاً) الذي أخرجه مالك في الموطأ ومسلم من طريق مالك وأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي: أنَّ رسول الله قال: “الأيِّمُ أحق بنفسها من وليِّها، والبِكْرُ تُستأذن في نفسها، وإِذْنُها صُمَاتُها”، وذلك من باب ترجيح الحديث المشتمل على تأكيد. ورجح الأحناف الحديث الثاني على الحديث الأول لوجود اختلاف في بعض رواة الحديث الأول. 
ولكن النظر إلى العُرف العربي –كما رأى بعض الأحناف- يجمع بين هذين الحديثين الصحيحين باعتبار العُرف الذي راعته الرواية الأولى، فقالوا إن ما ورد من نهي عن مباشرة البكر العقد ما هو إلا “لكيلا تنسب إلى الوقاحة،” وهو أمر قد يختلف باختلاف العُرف. ويؤيد ارتباط قضية الولي بالعُرف المذكور فعل عائشة -رضي الله تعالى عنها- (ولاحظ أنها هي نفسها راوية الحديث الأول!)، فقد زوّجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير، وعبدُ الرحمن غائب، “مما يدل على أن مذهبهما جواز النكاح بغير ولي.” وصريح القرآن أصل في هذه المسألة على أي حال، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (البقرة: 234). إن المقصد من وراء الولي -حسب العُرف- إنما هو حفظ حقوق المرأة والنصيحة لها، وهو مقصد قد يتحقق بطرق شتى حسب الأحوال والأعراف. فكيفما اقتضى العُرف تحقيق ذلك وجب؛ سواء بالولي، أو بالكتابة، أو بالكفاءة، أو بغيرها من الاعتبارات.
ومن الأحاديث التي رأى الفقهاء فيها تعارضاً حديث عائشة “لعن الله الواصلة والمستوصلة،” وحديث عائشة (أيضاً) “شعرها وغيره وصلته بصوف،” وأشار ابن عاشور إلى اعتبار العُرف في هذه المسألة تحت عنوان “عموم شريعة الإسلام”، فقال: “نحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها -بما هي عادات- أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع… ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإيجاب أو التحريم، يتضح لنا دفع حيرة وإشكال عظيم يعرضان للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال، مثل تحريم وصل الشعر للمرأة وتفليج الأسنان…؛ إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزين المأذون في جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك، فيتعجب من النهي الغليظ عنه. ووجهه عندي… أن تلك الأحوال كانت في العرب أمارات على ضعف حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها.” ويؤيد ذلك قول بعض الحنابلة إن الوصل في الجاهلية “كان شعار الفاجرات،” وهو ما يعني أن المسألة ليس فيها تعارض، وإنما هو حكم ارتبط بعُرف معين. وعلى هذا فالمقصد الذي دار معه ذلك الحكم هو تمييز المسلمات العفيفات من غيرهن، وهو مقصد لا بدّ أن يعتبر في كل عرف، وإن اختلف في صورته عن العُرف الذي اعتبر في الحديث المذكور، وذلك بتجنّب كل ما يكون “شعاراً للفاجرات” من: مظهر، أو قول، أو عمل.
وأذكر ها هنا فتوى ذكرها ابن عابدين في رسالته العميقة المغزى عن علاقة العُرْف بالحكم الشرعي، التي سمَّاها “نشرُ العَرْف فيما بُنِي من الأحكام على العُرْف”. قال: “صرَّحوا بفساد البيع بشرطٍ لا يقتضيه العقد وفيه نفعٌ لأحد العاقدَين، واستدلُّوا على ذلك بنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع وشرط، وبالقياس، واستثنوا من ذلك ما جرى به العُرف كبيع نعل على أن يحذوها البائع… فإن قلتَ: إذا لم يُفسد الشرط المتعارف العقد، يلزم أن يكون العُرف قاضياً على الحديث؟ قلتُ: ليس بقاض عليه بل على القياس، لأن الحديث معلول بوقوع النِّـزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة، والعُرف ينفي النِّـزاع فكان موافقاً لمعنى الحديث.” فابن عابدين هنا بنى فتواه على مقصِد الحديث (وهو قطع المنازعة) لا على ظاهره (وهو النهي عن بيعٍ وشرط)، وأدار الحكم مع هذا المقصد وجوداً وعدماً، وهو ما جعله يقر العُرف الجديد الذي يحقق المعنى المقصود. 
أما كون العُرف يتغير بتغير الزمان فهو وارد. يقول ابن بَرهان: “ليس كلُّ ما كان مصلحة في زمان يكون مصلحة في زمان آخر، ويجوز أن يكون الفعل مصلحةً في زمان ومفسدة في غيره، وليست الأزمنة متساوية.” 

ثالثاً: اعتراض منطقي وردّه:
ولكن، قد يُعترض على كلِّ ذلك بأن المقاصد الشرعية المستقراة ليست “قطعية”. و”القطع” مفهومٌ من المفاهيم الأساسية في التركيب المنطقي لأصول الفقه الإسلامي، فقد ادَّعى أرسطو قطعية الاستنباط المنطقي من قديم، واحتج بقطعية ما يُستنبط عن طريق الآلات اللوجستية -التي نظّر لها تنظيراً محكماً- في مقابل ما يُستكشف عن طريق الاستقراء. فقد رأى أرسطو أن الاستقراء إذا كان كاملاً فلا حاجة إليه، لأنه استوعب كلَّ الحالات المنطقية على أية حال، وإن كان ناقصاً فهو لا يفيد القطع، ومن ثم فقد شكَّكَ في سلامة استخدامه كآلة منطقية. وعلى الرغم من معارضة أغلب الفقهاء للفلسفة والفلاسفة والمنطق والمناطقة، إلا أنَّ رأيَ أرسطو كان هو السائدَ بين الفقهاء، بنقل مباشر أو غير مباشر عنه. وكان الاستثناء من هذه القاعدة قلةً من العلماء، كان على رأسهم ابنُ تيمية الذي عارض مسألة قطعية الاستنباط المنطقي؛ لأنه يستند في أساسه ومقدماته المنطقية على “كليَّات في الذهن” .
ولأن الطريق الرئيس لاستكشاف المقاصد الشرعية هو الاستقراء، وبسبب فكرة “عدم قطعية الاستقراء”، افتقدت المقاصد مرتبة “اليقين” و”الحجية” قروناً، وهي المرتبة نفسها التي توافرت للعلل التي اعتمدت في أغلبها على الاستنباط أو ما يشبهه من الطرق الصورية؛ حتى إن أبا حامد الغزالي، الذي أبدع في التنظير للمقاصد الشرعية في مستصفاه، ردَّد بدوره “عدم قطعية الاستقراء”، ووصف المقاصد في أول حديثه الرائع عنها “بالمصالح الموهومة”. والغزالي، وإن قصد بذلك المصالح التي لا يشهد لجنسها دليل من الشرع، إلا أنني أعتقد أنه ليس هناك مصلحة لا يشهد لجنسها دليل من الشرع، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. ولذلك، عندما أراد أبو إسحاق الشاطبي الإفاضة في التنظير للمقاصد، ودفعها لتتبوّأ مكانتها ضمن “أصول الشريعة”، بدأ كتاب المقاصد من الموافقات في مقدمته الأولى “المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب” بالتأكيد على “قطعية الأصول”، ثُم “قطعية الاستقراء”، ومن ثَم “قطعية المقاصد”. 
والحقُّ أن نفيَ أرسطو للقطع المطلق عن الاستقراء دقيق، كما أن نقد ابن تيمية لمنطق الاستنباط دقيق كذلك، ولا قطعَ في الاستقراء ولا الاستنباط ولا أية نظرية بشرية متصوَّرة، علميةً كانت أم فلسفيةً أم شرعية! وإنما درجةُ القطع (أو سمِّها درجة الظن إن شئت) كلها نسبية، والإنسان يزداد يقيناً بأية قضية كانت، كلما توفرت الأدلة عليها. بل إن منطق القرآن نفسه في إثبات وجود الخالق -عزّ وجل- هو منطق استقرائي بالأساس، يعتمد على لفت النظر إلى تكاثر الأدلة على وجود البارئ المبدع -سبحانه وتعالى- من مثل قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ (الملك: 3) فلا يقال إن هذا الاستقراء ناقص؛ لأننا ربما نجد فطوراً ما في ما لم نر من الكون؛ لأنه يكفي للبشر أن يقيسوا الغائب على الشاهد. فالتسليم، إذن، بنسبية القطع والحجية الكاملة للمقاصد المستقراة، أساس لتفعيل المقاصد في الاجتهاد والتجديد.

خاتمة:
النصوص الشرعية ثابتة خالدة، ولكن القضايا والحوادث متجددة على مر الأيام. فلا بد، إذن، من اجتهاد منضبط لاستنباط أحكام لتلك القضايا حتى لا يخرج عن مسار المقاصد الشرعية. ولا بد أيضاً من تجديد النظر الفقهي والأصولي اللازم لضبط ذلك الاجتهاد. 
وقد تعرّض البحث لبعض الانتقادات التي أثارها العلماء المجتهدون المعاصرون حول مناهج أصول الفقه التقليدية، ومنها أنَّ معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، وإنما تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ النصوص وإعطائها أولوية –أحياناً- على المعاني والمرامي المقصودة. ثم تناول البحث بعض وسائل التجديد والاجتهاد المقاصدي من خلال قضية الدلالة، وطرح مفهوم “دلالة المقصد”، وضرب أمثلة على تطبيقه في بعض المسائل، على أساس أنَّ المقاصد منهج وسط في الاستدلال ينطلق من ثوابت النصوص، ويدور مع متغيرات الواقع. واقترح البحث منهجاً لحل التعارض كبديل عن مسالك النسخ، ألا وهو الجمع بين المتعارض من وجه تحقيق المقاصد على اختلاف الظروف، وكان ذلك عن طريق فهم المقاصد النبوية بملاحظة المقاصد، واعتبار التنوع المقصود، واعتبار التدرج المقصود.