ينبغي أن نفرق في تعريف “الدولة المدنية” بين المبادئ القيمية التي يتفق عليها الجميع والتي ينبغي أن تدخل في تعريف الدولة نفسها وخصائصها المميزة لها، وبين الأيديولوجيات السياسية المختلفة -بما فيها الأيديولوجية الإسلامية- والتي ينبغي أن تكون كلها فاعلة ومسهمة في تيارات “الدولة المدنية” المنشودة ولكن لا يصح أن يحتكر أي منها تعريف الدولة نفسها أو خصائصها الدستورية الوطنية المميزة لها.

ورغم أنني لست من أهل العلوم السياسية، وهو تخصص دقيق له أهله وله احترامه، إلا أنني أطرح هنا أفكاراً في موضوع طبيعة الدولة بناء على تخصصي في مقاصد الشريعة، وتخصصي في فلسفة المنظومات، وتطبيقي منذ فترة لهذين العلمين –على المستوى الأكاديمي- على موضوع السياسات العامة، راجياً بذلك أن أقدم شيئاً مفيداً إن شاء الله في معالجة جزء من الإشكالية المنهجية في تعريف “الدولة المدنية” في واقعنا المعاصر ومن منظور إسلامي، على أن يغفر القارئ الكريم لي عُجْمة في لغة العلوم السياسية من كلامي في معرض الحديث عن مصطلحات السياسة.

مقدمة

 

القضايا المعقدة ذات الأبعاد المتعددة في عصرنا تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المقاربات المتعددة التخصصات والمتنوعة المنهجيات، وذلك حتى يكمل بعضها بعضاً وتتكامل أبعاد الموضوع وجوانب البحث. والحق أن تقسيم العلم المعاصر نفسه إلى تخصصات أكاديمية ومهنية هو وسيلة للتعلم والتعليم، ولكنه لا ينبغي أن يضع قيوداً احتكارية على الإبداع الفكري، لأن الأصل في البحث والفكر هو تعددية التخصصات ووجهات النظر وزوايا الرؤية.

وقد ظهر مؤخراً خلاف حاد حول تحديد مفهوم الدولة المدنية في ما انتشر من خطاب سياسي وشعبي عام في سياق “الربيع العربي”، واحتدم النقاش من خلاله حول طبيعة الدولة الوطنية المعاصرة نفسها، وكان ذلك على عدة صور وتعريفات، فقال بعضهم إن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، وقال آخرون أنها هي الدولة الليبرالية التي تركز على حريات وحقوق المواطنين كأفراد، وقال آخرون إنها الدولة التي يحكمها مدنيون أي في مقابل الدولة العسكرية التي يحكمها قادة الجيش، وقال آخرون إنها هي الدولة الوطنية التي يستوي فيها المواطنون أمام القانون، وقال آخرون إنها ليست الدولة الدينية الثيوقراطية التي يحكمها رجال الدين، وقال آخرون إن الدولة المدنية هي نفسها “الدولة الإسلامية” في صورتها الصحيحة منذ عهد الرسالة وميثاق المدينة [1].

ورغم عدم وجود تعريف مستقر تاريخياً وفلسفياً، إلا أن المصطلح “الدولة المدنية” يبدو لي كفرصة ممتازة لإحداث نوع من التوافق المجتمعي والأرضية المشتركة بين كل الاتجاهات والإيديولوحيات المتصارعة المذكورة، توافق على شكل الدولة المنشود وعلى قيم يمكن أن نسميها جميعاً “قيم مدنية” تحكم الدولة وعملها وسياساتها، وهذه القيم قد يأتي لها “الإسلامي” من منظور مقاصد الشريعة كما سيأتي البيان، ويأتي لها المسيحي واليهودي واللا ديني والوطني والليبرالي والعلماني وغيرهم كلّ من منطلقه الفلسفي الذي يوصله إلى نفس هذه القيم المجردة باسم العدالة والحرية والمصلحة العامة.

وهذا التوافق الذي قد يراه بعض الإسلاميين تخلياً عن بعض المبادئ هو عندي حل ضروري تحتم وقته للمجتمعات العربية في السياق الحالي خروجاً من حالة الاستقطاب الشديد والتشظي الواسع التي تشهدها إلى حالة فيها مراعاة للنظام العام وسيادة القانون وحرصاً على أرواح الناس والسلام الاجتماعي والأهداف الأساسية والإنسانية المشتركة.

ثم إن هذه الأرضية المشتركة تبدو لي في خصيصتين للـ “الدولة المدنية” المنشودة، واللتين إذا تحققتا في المجتمع أمكن تحقيق خطوة للأمام في مسار الإصلاح العربي الإسلامي المنشود، أولهما التعددية السياسية بمعنى شامل للسياسة، وثانيهما أولوية الخدمة المدنية.

أما التعددية السياسية المنشودة فتتحقق أولاً بنظام متعدد الأحزاب لتداول السلطة، وذلك حتى نحل الإشكالية المزمنة في عدم وجود آلية سلمية لتداول السلطة، ثم لابد للتعددية السياسية أن تتوسع لتحقق تمثيل سياسي وتوازنات في توزيع السلطة المادية والناعمة بين كل القوى والتجمعات المدنية.

وأما خصيصة “الخدمة المدنية” في بناء الدولة المدنية المنشودة فلها ما لها من أهمية من أجل صنع سياسات أولويتها تحقيق مصالح الناس، وهو المقصود بالدولة أصلاً. وقد تختلف الأيديولوجيات بين اليمين واليسار في تحديد الملامح العامة لتلك السياسات، ولكن هذا لا يمنع أن هناك معايير أخلاقية ومبدئية عامة حتى لا تنحرف السياسة بالسياسات.

الخلاف حول الدولة المدنيةأيديولوجي

            ليس هناك “طبيعة” للمفهوم السياسي، إذ أنه تصور بشري متطور يتواضع عليه الناس ويبنون المؤسسات والنظم السياسية بناء على تواضعهم على وظائف المفهوم وأهدافه. ورغم أن مصطلح “الدولة المدنية” مصطلح ليس له تاريخ أو تعريف واضح في العلوم السياسية التقليدية والمعاصرة على حد سواء، إلا أن نشره منذ “الربيع العربي” بالمعاني الذي تناقش اليوم على مستوى العرب والمسلمين يكفي لإعطائه أهمية منهجية نظرية وصلاحية وظيفية عملية.

ولكن ينبغي -كما أسلفنا القول- أن نفرق في تعريف “الدولة المدنية” بين المبادئ القيمية التي يتفق عليها الجميع، وبين الأيديولوجيات السياسية المختلفة التي ينبغي أن تكون كلها فاعلة ومسهمة في تيارات “الدولة المدنية” المنشودة دون أن يحتكر أي منها تعريف الدولة نفسها.

أما المبادئ المتفق عليها فأولها أن يحكم المدنيون تلك الدولة لا أن يرتبط نظام الحكم بالمؤسسة العسكرية، وهذا يعني أن تكون المؤسسة العسكرية -على أهميتها القصوى- واحدة من مؤسسات الدولة ليس إلا، يجري عليها ما يجري عليهم. هذا مبدأ مهم لا يمكن أن تتحقق مدنية الدولة إلا به.

وثاني هذه المبادئ ضمان حريات وحقوق المواطنين وتساويهم أمام القانون مهما كان دينهم وجنسهم وفكرهم، وهذا يتطلب دعم مبدأ سيادة القانون واستهدافه لتحقيق العدالة واستقلاله الحقيقي عن السلطات الأخرى في الدولة، واحترام الدستور للقيم التي قام عليها المجتمع وبالتحديد لـ “مبادئ” الشريعة الإسلامية إذا كانت الغالبية من المسلمين، وهذا بالطبع مع كفالة حرية المعتقد لكل أصحاب الأديان من المواطنين.

وأما الأيديولوجيات السياسية التي لا يصح أن تدخل في تعريف الدولة المدنية نفسها ولو دخلت في تعريف فلسفات الحركات والأحزاب السياسية التي تتداول إلى الحكم، فهي “علمانية الدولة” أو “ليبرالية الدولة” أو “إشتراكية الدولة” أو حتى “إسلامية الدولة” – في نظري للدولة الوطنية، فالدولة الوطنية ليست في نظري “دولة إسلامية” إلا في المرجعية الدستورية المبدئية في دين الغالبية أو مصدر التشريع، ولابد أن نكرر أن الحديث هنا هو عن الدولة الوطنية المعاصرة تحديداً كما هي في واقعنا المعاصر تحديداً، لا عن دولة “إسلامية” مثالية يمكن أن نتصورها في الخيال لا في الحقيقة، أو نعرفها من التاريخ لا من الواقع. الحديث هنا عن الواقع الوطني للدولة.

وعليه، فقد تنادي قوى وأحزاب سياسية تسمي نفسها “علمانية” بفصل الدين عن الدولة بشكل أو بآخر أو حيادية الدولة تجاه الأديان وما إلى ذلك، ولكن هذا لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما يبقى اتجاهاً سياسياً قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.

وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية ببعض القيم الليبرالية التي تعطي أولوية لحريات المواطنين كأفراد على كل الاعتبارات الأخرى التي تقيد تلك الحريات وما إلى ذلك، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما أن يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.

وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية ببعض القيم الإشتراكية بمعنى تحكم الدولة بدرجة أو أخرى في اقتصاديات السوق أو فرض نظام تكافل اجتماعي معين وما إلى ذلك، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما أن يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.

وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية بتطبيق الكامل لكل الأحكام الشرعية الإسلامية التي تؤثر على حياة كل المواطنين مسلمين وغير مسلمين سواء قبِل المواطنون تلك الأحكام أم لم يقبلوها، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.

وإذا رفض البعض هذا الكلام وأصروا على أن الدول الوطنية المعاصرة دولاً إسلامية بكل المعاني الشرعية والتاريخية، فليقم من يستطيع بثورة على أسس إسلامية حتى تقوم دول إسلامية لها دستور مختلف لطبيعة الدولة ولعلاقة المواطن بها، ولكن الثورات التي كانت أو لا زالت والتي أنتجت المرحلة الحالية، لم يستهدف فيها الناس تلك الدولة الإسلامية بالمعنى التاريخي ولم يدعي أحد ممن قام بهذه الثورة -من الإسلاميين فضلاً عن غيرهم- أنه يستهدف تغيير نظام الدولة إلى دولة إسلامية بهذه الطريقة، وإلا فإن هذه مسألة أخرى لم يكن لتتفق عليها الشعوب ولا تخرج إلى الشوارع لتؤيدها.

وهنا يأتي سؤال حول علاقة “الديني” و”المدني” في ما نتصور من “دولة مدنية”، والإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى بعض التركيب والتفصيل، مما نقدمه فيما يلي.

العلاقة المركبة بين الديني والمدني

 

كتبت ضمن كتابي (بين الشريعة والسياسة – طبعته الشبكة العربية للأبحاث والنشر) أنه ليس هناك “تعارض” بين مفهوم “المدني” ومفهوم “الديني الإسلامي”، إذا تخيلنا مساحات الديني والمدني في دوائر مفهومية متقاطعة وليست دوائر منطقية منفصلة، ثم قسمت هناك التقاطعات بين هذه المفاهيم إلى مساحات كما في الشكل الموضح. وهذا التصور هو تطبيق لنظرية تعدد الأبعاد والرتب في المنظومات الاجتماعية والسياسية، ومبدأ المساحة الرمادية الطبيعية بين الأبيض والأسود في تحليل المفاهيم في نظرية التصورات الذهنية. هنا يكون مفهوم المدني منقسماً إلى قسمين: “مدني بحت”، و”مدني ديني”. هذا بالإضافة إلى قسم “ديني بحت”، على هذا النحو التالي (كما يظهر في الشكل):

 

علاقة الديني والمدني بين التقاطع والتمايز

 

  • الديني البحت: وهو بمعنى التعبديات التي تخص أهل الدين مما لا يصح أن يكون له علاقة ببناء الدولة ولا قوانينها، وهذا مثل مسائل العقيدة وقضايا الحلال والحرام مما لا يتعلق بالنظام العام. وهذه المساحة ليست إسلامية فقط وإنما مسيحية ويهودية وغيرها، وأهل كل دين فيها يختصون بدينهم ومعتقدهم، ما لم ينقض النظام العام المتفق عليه من الجميع. وهذه هي مساحة ممارسة الشعائر دون تدخل من الدولة، وهي المساحة التي إذا ابتلعتها الدولة فهي تعتدي على حريات المواطنين وتتحول من دولة “مدنية” إلى دولة “دينية شمولية”، ولا يصح من الدولة أن تتدخل في الحريات الدينية بهذا المعني، لا باسم الدفاع عن الدين ولا باسم الدفاع عن العلمانية!
  • المدني البحت: وهو هنا بمعنى ما يخص الدولة ومؤسساتها من تدابير سياسية وسياساتية مما للإسلام تداخل مباشر معه عن طريق القيم والمعاني وليس عن طريق الأحكام الشرعية التي يختص بها الإسلام كدين، وذلك مثل شكل الدولة وتقسيم السلطات المختلفة والقوانين المنظمة للعلاقات بين الأفراد والهيئات والتجمعات مما ليس له ذكر مباشر وتفصيلي في نصوص الشريعة، ونذكر في القسم التالي كيف يدخل هذا القسم ضمن”شؤون الدنيا” أو “التصرف بالسياسة” الذي ناقشناه في سياق الحديث عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه مساحة “مدنية” خالصة إن صح التعبير.
  • ديني-مدني: وهناك دائرة (وهي المساحة البينية في الوسط في الشكل الموضح)، وفيها يختلط الديني بالمدني، أي أن للدين فيها أحكام تفصيلية خاصة تتعلق بالدولة أو مؤسسة من مؤسساتها أو علاقات المواطنين الخاصة بشكل مفصّل، وهذه الأحكام الدينية الأصل فيها أن تتحول إلى قوانين أو سياسات عامة تلزم الجميع. وهنا تأتي إشكالية الديني والمدني، لأن تحويل الأحكام الشرعية (الإسلامية في هذه الحالة) إلى قوانين تلزم المواطن المسلم وغير المسلم على حد سواء هي مسألة تحتاج إلى تفصيل.

ولكننا إذا قسمنا هذه المساحة (الديني-المدني) إلى ثلاثة أقسام متمايزة يمكن أن تشكل إطارًا مشتركًا واسع القبول وحتى نستطيع أن نتجنب صراعًا وانقسامًا مجتمعيًا وخيم العواقب في “الدولة المدنية”:

أ: الدينيالمدني الذي يمكن لكل أهل دين التحاكم فيه إلى دينهم:

في الأحوال الشخصية مثلًا، الغالبية الساحقة من الشعوب العربية –مسلمين ومسيحيين وغيرهم، سنة وشيعة وغيرهم، إسلاميين وليبراليين وغيرهم- لا يقبلون بفكرة “الزواج المدني” بمعنى الزواج بين أي شخصين يتوافقا عليه دون الرجوع إلى أحكام الدين (الإسلامي كان أو المسيحي) في جواز ذلك الزواج شرعًا عندهم وشروطه وموانعه المختلفة كما هو في اجتهادات الهيئات الدينية المعنية. لذلك، فلابد لدائرة الأحوال الشخصية وما يتعلق بالأسرة من هيئات وقوانين ومؤسسات –ويلحق بها مسائل الميراث والنفقات والنسب، إلى آخره– لابد أن تكون الكلمة العليا فيها للفقهاء القانونيين أصحاب العلم بالشريعة والمذهب في كل دين، والذين يمثلون (طبعًا في إطار اجتهادات مناسبة ومعاصرة) الرأي الديني المقبول سواء في الإسلام أو المسيحية بالمرجعيات المعروفة. هذه المساحة لابد أن يكون القانون ومؤسسات الدولة معززة لخصوصية كل دين وكل طائفة وكل مذهب.

 

ب: الدينيالمدني الذي يسري على الجميع بناء على توافق مجتمعي:

وهذه مساحة من الأحكام الدينية (الإسلامية في هذا السياق)، والتي يتفق عليها الجميع أنها أفضل ما يمكن للصالح العام ولو كان مصدرها الشريعة الإسلامية تحديدًا. من ذلك مثلاً في أغلب البلدان العربية قانون القصاص من القاتل العامد مع سبق الإصرار والترصد، الذي هو هو “حد القتل العمد” في الشريعة الإسلامية. ورغم أنه حكم شرعي إسلامي إلا أنه قد حدث توافق مجتمعي عليه فأصبح هو القانون المعمول به على المسلم وغير المسلم، ولا يعارض الدستور ولا النظام العام.

ومن ذلك العقوبات التي يفرضها القانون على الأفعال الفاضحة أو السّكر في الطريق العام، أو الجهر بالإفطار في رمضان مثلاً، أو غير ذلك من أحكام الشريعة ولكنها مما اتفق عليه الجميع دون غضاضة في أغلب البلدان العربية والإسلامية.

وهناك أيضاً القوانين التي تنظم دور العبادة والتي تتبع نفس القواعد ولو كان فيها اختلاف بين المسلمين وغيرهم في بعض البلاد نظراً لاختلاف نسب السكان وتوزيعهم الديمغرافي بشكل يقتضي مراعاة الفروق، والإجازات الرسمية في الأعياد الإسلامية والتي تكون إجازات للجميع، وكذلك هيئات المساجد والأوقاف الإسلامية وبعثات الحج الرسمية التي تدعمها الدولة من مال الشعب كله، ونحو ذلك. وهذه المساحة كلها لابد للرجوع فيها إلى “المشرّع” الذي يمثل الشعب وأن تراعي الحساسيات المختلفة سواء حساسية المسلمين –وهم أغلبية– أو مشاعر الأقليات ولها حق أن تُراعَى وعليها واجب أن تُراعِي.

هذا فضلا عن المادة الدستورية العامة والمهمة التي تجعل من الشريعة “مصدرًا” أو “المصدر” للتشريع، وهي مادة هامة توافق عليها المجتمع في كثير من البلاد دون إخلال بخصوصيات غير المسلمين.

 

ج: الدينيالمدني الذي لا يتوافق عليه المجتمع:

وهذه هي المساحة الشائكة في الطرح الإسلامي، والتي ينبغي أن تكون لها حساسية خاصة عند الإسلاميين، نظراً لأن مصدر القوانين أو المؤسسات هنا هو الشريعة في هذه الحالة، ولكن التوافق المجتمعي عليها لم يحدث ولم يتم بدرجة مقبولة تسمح بأن يتحول الديني الإسلامي إلى قانون مطبق أو مؤسسة معينة من مؤسسات الدولة، وذلك مثل من ينادي بأن تقوم الدولة الوطنية على جمع جزية أو ضريبة من غير المسلمين، أو عدم السماح لغير المسلم بالاشتراك في الخدمة العسكرية أو الترشح لرئاسة الجمهورية أو تولي القضاء، أو أن تفرض الدولة بعض شعائر الإسلام ومظاهره الدينية الخاصة على الجميع باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تطبق الحدود الشرعية على الجرائم المحددة لها، أو أن يلغى الربا من المعاملات البنكية، إلى آخره.

وهذه المساحة لابد للطرح الإسلامي الآن أن لا يدخلها في الطرح السياسي أصلاً، وأن يخرجها من مساحات مؤسسات الدولة والتقنين وتشريع العقوبات إلى مساحات العمل المدني والتربية والثقافة. فالآداب الإسلامية العامة مثلاً يمكن أن تتحقق في المجتمع عن طريق المؤسسات الإسلامية التربوية والثقافية وعن طريق التوعية والإعلام والمساجد، ولا يلزم بالضرورة أن تتحول هذه الآداب إلى قوانين تعاقب المخالفين، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تعلمنا أن الأصل في هذه المسائل هو سلوك الفرد وليس سلطة الدولة.

ثم إن دائرة المدني التي درسناها هنا بأقسامها الأربعة (“1″، “ا”، “ب”، “ج”)، أي سواء منها من تعلق بالإسلام كقيم ومبادئ مشتركة وما تعلق به كأحكام تفصيلية، لابد بدورها حتى يتحقق فيها المعني المدني أن يتحقق فيها المعنى التعددي بمعناه الشامل لا بالمعنى الحزبي فقط. ودائرة المدني بأقسامها الأربعة (“1″، “ا”، “ب”، “ج”) أيضاً لابد بدورها أن تنقسم في الوعي التنفيذي والشعبي إلى قسمين لابد للدولة “المدنية” أن تفصل بينهما ما استطاعت: السياسي والسياساتي، ولا يتسع المجال في هذا البحث لتفصيل هذه الأقسام.

 

الفارق بين الشريعة والقانون معتبر في الشريعة

 

وإذا سأل سائل: كيف سمحتم بالمساحة “الخاصة” رقم (1) والمساحة المختلف عليها (ج) أن تخالف الشريعة، فالجواب هو أن هناك فارقاً في الشريعة بين الذنب أي الإثم أو المعصية التي يرتكبها الإنسان مخالفًا لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وما علمنا إياه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبين الجريمة التي قد تكون ذنبًا، ولكن الفرق بينها وبين الذنب أن الجريمة لها عقوبة مدنية.

ولأن قواعد التشريعات المعاصرة في كل البلاد الوطنية قد استقرت على أنه “لا جريمة إلا بنص قانوني”، فإن العقوبة المدنية في هذا العصر معناها وجود قانون يجرم الفعل في حد ذاته ويحدد عقوبة عليه سواء من الهيئات التنفيذية مباشرة أو بعد حكم قضائي بشروط معينة.

وإذا كنا نتحدث عن استثمار مبادئ الشريعة في بناء الإنسان فلابد أن نضيّق لا أن نتوسع في تحويل الذنوب إلى جرائم، وأن نفرق فرقًا واضحًا بين الذنوب بين العباد وربهم تعالى، وبين الجرائم التي تقع تحت طائلة القانون. ذلك أن بعض الناس يدّعون اليوم أن التطبيق الكامل للشريعة يعني أن تتحوّل كل الذنوب إلى جرائم، وهذا مستحيل. إذا أردنا أن نعاقب الناس على المساحة رقم (1)، أي على ترك الصلاة، والإفطار في رمضان، وعلى الملبس الغير لائق من وجهة نظر إسلامية معينة (وفيما دون العورات المغلّظة فإن الآراء تختلف كثيرًا في هذه المسألة)، وعلى النظر إلى الحرام، وعلى ما دون القذف في العرض من سباب غير لائق أو قلة أدب مع الناس … إذا أردنا أن نطبق ذلك فلن تطيقه الدولة. وهذا لعدة أسباب:

أولا: تحويل الذنوب إلى جرائم يعاقب عليها القانون خلاف الطريقة الصحيحة والمنهج النبوي الذي علمنا إياه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، ألا وهو منهج التربية والتغيير. النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يحاسب الصحابة أحيانًا على بعض الذنوب من باب التأديب والتربية وهو ما أطلق عليه في الفقه التعزير، ولكنها كانت حالات فردية، وتبقى الحالة العامة أن النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه كمجتمع، وغيّر المجتمع بالطريق التدريجي وبطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون كل راع مسئول عن راعيته. ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته)) [2]، وكل من هو راع في مكان يكون مسئولاً عن التربية والتزكية، وهذا هو الأصل.

ثانيًا: يقتضي تحويل الذنوب إلى جرائم قوة حكومية أو شرطة تنفيذية تتابع ذلك وتنفذه، وهذا يقتضي حجمًا كبيرًا جدًا للحكومة في البلاد ذات الملايين الكثيرة كمصر ويقتضي حجما كبيرًا للمباحث الجنائية، ويقتضي كذلك مجهودًا مضاعفًا حتى يستطيع الجهاز الحكومي أن يحقق العدل وأن يتابع كل هذه الذنوب التي حولت إلى جرائم وأن يحاسب عليها، وهذا مستحيل أيضًا نظرًا لأن الوضع الحالي نفسه فيه صعوبات بالغة وتحديات أمام المباحث الجنائية التي تتابع الجريمة على نطاقها الحالي التي هي عليه، فما بالك لو اتسع نطاق الجريمة لكي يستوعب الذنوب والآثام على اختلاف أنواعها وإشكالها؟!

ثالثا:  تحويل الذنوب الشرعية إلى جرائم ينتج إشكاليات عملية حقيقية، وهي تتعلق بالتطبيق، مثلاً: إشكالية تعريف المسلم من غير المسلم! المسلم شريعته تقتضي أن يصلي الصلاة في وقتها ولكن غير المسلم لا تقتضي شريعته شيئًا من ذلك، وبالتالي فكيف يمكن أن نطبق هذا القانون دون أن نتعسف مع غير المسلم؟ (كما يحدث في بعض البلاد التي تفعل ذلك ويسيئ ذلك إلى صورة الإسلام أيما إساءة) هل يجب أن يحمل الناس في مصر بطاقات وهويات دينية وأن يُظهر الإنسان دائمًا هويته الدينية على بطاقة حتى يحاسب أو لا يحاسب على ترك الصلاة؟ هذا مستحيل وغير ممكن وغير واقعي في هذا الزمان خاصة في البلاد ذات الملايين من المواطنين.

صحيح أن هناك في الشريعة أصل لما سمى بالتعزير وهو العقوبة التي يفرضها “الحاكم” (أو في هذا العصر: تفرضها “الأمة”) على ذنب ما، ولكن التعزير الشرعي لا ينبغي أن يطبق إلا بشروط ثلاث:

1- لابد أن يكون الذنب مما يقدرّ أنه يعرض المصلحة العامة للأمة للخطر، وأن يحدث التوافق المجتمعي المطلوب على هذا التقدير، وإلا فسوف يحدث عدم التوافق في المجتمع على القانون وتحدث القلائل. مثلاً الفعل الفاضح في الطريق العام أي أن يكشف الإنسان عن عورة مغلظة لا يختلف المسلم وغير المسلم على تنافيها مع الأدب والتقاليد العربية وعلى ضرر هذا الفعل في الطريق العام، هنا يمكن للقانون أن يعاقب على ذلك كما يعاقب على الإهمال في العمل أو الفساد الإداري باستغلال النفوذ أو التربح، هذه ذنوب وآثام نهى عنها الله سبحانه وتعالى وينبغي أن يعاقب عليها القانون أيضًا لأنها تضر بالمصلحة العامة للمجتمع.

أما دون ذلك من الذنوب بين العبد وربه فلابد في تغييرها من مناهج تعليمية وتربوية وثقافية، أي لابد من إصلاح التعليم والإعلام وهذا هو الحل وليس الحل هنا أمنيًا ولا قانونيًا. هذه طريقة النظم المستبدة ولا يصح أن تستمر. أحيانًا يتصور البعض أن التقنين هو الحل لكل شيء رغم أن التقنين والتجريم والعقوبة هو آخر الدواء.

2- لا يمكن أن يكون التعزير أكبر من الحد، وهو الشرط المعروف في الفقه الإسلامي إلا من بعض الآراء الشاذة، ولكن الذي يحدث في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام وتدعي تطبيق الشريعة في محاكمها – نجد أن الناس تجلد آلاف الجلدات من أجل ذنب هو أصغر من الذنب الذي حدّه ثمانين أو مائة جلدة! فإذا زنا الرجل ورآه أربعة شهود وانتفت الشبهات وانطبقت الشروط فالحد هو مائة جلدة، ولكنّه إن ضبط في جريمة سمّوها -للعجب- “شبهة زنا” جُلد ألف جلدةّ! ما هذا؟ كيف تجلد ظهور الناس بالشبهة والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات))؟ وإذا درأنا الحدود بالشبهات فما بالنا بالتعزير؟ أهذا ما نريده في مصر؟ هذا والله من الخلل في تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى ومن اتباع أهواء بعض الساسة.

 3- أن يكون الذي يقرر التعزير أو العقوبة هي الأمة وليس “الحاكم” بالمعنى التنفيذي، والفقه في هذه المسألة ينبغي أن يتغير في عصرنا من سلطة الحاكم إلى سلطة الأمة، ولا ينبغي لكائن من كان في هذا العصر أن يكون له سلطان أن يجلد ظهور الناس ويأخذ أموالهم دون أن يمر قانون على المشرع المنتخب أو السلطة التشريعية أياً كانت – حتى تشرع هذه العقوبة وتجعلها قانونا وتعلم الناس بها. عند ذلك يمكن للعقوبة أن تنفذ.

وينبغي للحاكم أن يقتصر دوره على وضع السياسات وعلى تنفيذها، ولا ينبغي له أن يعزر أحداً من عنديّاته. لقد ذاقت الشعوب الإسلامية الأمرّين من الحكام المستبدين باسم الشريعة والشريعة من هذا براء.

 

مسألة تطبيق الحدود في الدولة المدنية

الشرع في مسألة الحدود قطعي ومعروف، والاختلافات والاجتهادات في بعض التفاصيل معروفة، ولكنّ تحويل أحكام شرعية كأحكام الحدود إلى قوانين يعمل بها في دول وطنية متعددة الأديان هي مسألة أخرى، ويتوقف على الآليات الدستورية والتشريعية التي تسمح بولادة هذا القانون، وتتوقف –وهو الأهم- على توافق مجتمعي ساحق على ذلك، وهو ما لا يفترضه أحد في هذه المسألة اليوم.

والحد في اللغة هو الفاصل بين شيئين وهو أقصى المدى، يقال حد المدينة أو سور المدينة أي: أقصاها، وكذلك هي الحدود الشرعية، فهي أقصى المدى في العقوبات الجنائية الإسلامية وليست هي كل ما هو متاح لها، أي أنها -بالتعبير المعاصر- عقوبات استثنائية في حالات طارئة خاصة وليست جرائم عادية.

والحد في الشريعة لابد أن يكون منصوصًا عليه بنصوص صريحة قطعية، ولابد أن يكون مقدّرًا أي أن تكون العقوبة مقدرة وواضحة في أرقام وأشكال واضحة، وإلا فإن العقوبة تصبح تعزيرًا –كما ذكر من قبل- فمثلاً قضية الخمر أو عقوبة شرب الخمر في الإسلام هو تعزير وليست حدًا كما يقول البعض، وذلك لأن العقوبة المنصوصة على الخمر ليس قطعية وليست مقدرة، والنبي (صلى الله عليه وسلم) طبق عقوبات مختلفة على شرب الخمر -أو بتعبير أدق على السّكر في العلن-، وهي بالتالي شرعًا متروكة للمشرع والمجتهد المعاصر.

والحدود في الشريعة هي على جرائم محددة معروفة، وهي كالتالي:

1 – السرقة: قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ).
[3]

2- الزنا: قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [4]، وقال أيضًا: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)[5]، وهذا عن الزنا، وقال كذلك: (وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً) .
[6]

3- الحرابة: أي الإفساد في الأرض وقطع الطريق: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
[7]

4- القتل والجروح: وهو على أنواع: القتل العمد والقتل شبه العمد والقتل الخطأ والجروح العمد والجروح الخطأ، وهناك أنواع وأشكال مختلفة ومعروفة في الشريعة. من ذلك مثلا القصاص في القتل بمعنى النفس بالنفس، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[8]، وقال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).
[9]

5- القذف: وهو التشهير عن طريق الرمي بالزنا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) .
[10]

وهناك ما يسمى “حد الردة”، وهو القتل عقوبة على من يغير دينه من الإسلام إلى غيره، وقد ألحقها كثير من العلماء بالحدود وهي ليست كذلك![11] ويأتي لاحقًا مزيد من الحديث عن ذلك الموضوع.

هناك سؤالان مهمان هنا:

1- هل نطبق الحدود في دولة “مدنية”؟

2- إذا كان بعض الإسلاميين ينادون بتطبيق الحدود اليوم، فما هي الدراسات والاجتهادات اللازمة قبل التطبيق في هذا العصر؟

الإجابة على السؤال الأول: هل نطبق الحدود في دولة مدنية؟ هي: نعم ولكن بشروط هذه الدولة المدنية نفسها لا افتئاتاً عليها. وهذا يعني أنها تمر كغيرها من العقوبات على القنوات المشروعة ثم لابد أن يتفق عليها الناس على أوسع نطاق وليس فقط على نطاق الهيئة التشريعية، نظراً لبعد الشقة بين المجتمعات المعاصرة والحدود الشرعية.

ولكن هناك إشكالية دستورية حقيقية تحول دون تطبيق الحدود في عصرنا، ألا وهي أن الشرط الأول التي تشترطه الدول الحديثة في دساتيرها أن تسوي العقوبات المقننة بين المواطنين! وهذا يطرح إشكالية حقيقية إن اقترح مقترح أن يعاقب غير المسلمين على ذنوب ليست ذنوباً في شريعتهم. وإذا اقترح مقترح آخر أن يطبق الحد على المسلمين فقط فهذه أيضاً فيه إشكالية مركبة؛ لأن هذا أولاً عند الكثيرين سوف يتنافى مع التسوية القضائية والقانونية بين المواطنين، وهذا أيضاً في الواقع المعاصر مظنة فتنة بين المسلمين في دينهم لأنه يفتح بابا يرتد المسلم عن دينه إذا رأى أنه سيعفى من الحد إن كان غير مسلم.

وهذا لا يغير من الشريعة الإسلامية في شيء، ولكن هناك فارق كما ذكرنا بين الشريعة والقانون أي بين ما هو شرع لله سبحانه وتعالى لا يختلف عليه أحد، وبين ما يمكن أن نحوله من هذا الشرع إلى لقوانين تطبق في الواقع كما هو.

أما جواب السؤال الثاني: فإنه لابد قبل التفكير أصلاً في تطبيق الحدود في عصرنا من دراسة للاجتهادات الجديدة في التطبيق، والاجتهاد في الشرع على أي حال فرض من الفروض لا يصح التخلف عنه في أي عصر.

أول هذه الاجتهادات القديمة الحديثة هو سقوط الحد بتوبة الجاني، وهو الذي يحقق المقصود من الحد أصلاً. فهناك شقان أو حقان في كل جريمة من هذه الجرائم أولهما حق البشر، وفي هذه الحق لابد أن تعود الحقوق لأصحابها فالسرقة مثلاً لابد فيها أن تعود الأشياء المسروقة إلى أصحابها، والحق الثاني وهو حق الله سبحانه وتعالى أي الذنب بين العبد وربه.

يقول تعالى عن المحاربين: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إلَّا الّذِين تَابُوا)[12]، فلم يختلف عالم على أن حد الحرابة يسقط بالتوبة كما تنص الآية، ولكن اختلف العلماء في التالي: هل تقاس هذه التوبة في حد الحرابة على التوبة في غيرها من الحدود؟ وإذا كان الله عز وجل  يقبل توبة التائب في حد الحرابة وهو يتعلق بأعظم الجرائم، فهل نقبل توبة التائب في حدود أخرى؟ والإجابة المناسبة لهذا العصر والاجتهاد الأولى بالمقصود من مسألة الحدود وهو الردع للمجرم، هي[13]: نعم! وهذه التوبة إذا ثبتت وأيدتها القرائن فلابد أن نقبلها -كقاعدة عامة طبعًا- وهذا بعد عودة الحقوق لأصحابها على أي حال.

ورأي الدكتور توفيق الشاوي رأي مؤيد لهذا الاتجاه، فكتب يقول:
[14]

من الواضح أن التشجيع على التوبة من أهم ما عنيت به السنة النبوية، حتى إنها وصلت إلى تقديم النصح للمتهم المعترف بالعدول عن اعترافه والتراجع عنه ليكون ذلك دليلاً على توبته. وهذا التوسع في التوبة يتجاهله كثيرون … ذلك أنجع في مكافحة الجريمة وإصلاح الجاني والمجتمع من فرض العقوبة المقررة. إن إعلان المتهم التوبة وجديته فيها يعد من الشبهات التي يجب على القاضي أن يجعلها سببًا لمنع توقيع العقوبة القصوى حدًا أو قصاصًا … التوبة لا تعفي من أداء الحقوق المدنية … فترة الاختبار (probation) يجب عدها من وسائل تشجيع المتهمين على التوبة، ولذلك فهي تتفق تمامًا مع مقاصد شريعتنا وأصولها …

ولأستاذنا الدكتور محمد سليم العوا رأي مؤيد لما قيل أيضًا، فقد كتب يقول:
[15]

حجج القائلين بسقوط الحدود بالتوبة –أو إعفاء التائب من العقوبة- أرجح من حجج القائلين بالرأي الآخر … ولا يعترض على هذا الرأي بأنه يفتح الباب لعدم العقاب على الجرائم بادعاء كل جان توبته مما اقترفت يداه، لأننا حين نقول باعتبار التوبة عذرًا معفيًا من العقاب لا نقول بمنع القاضي من وزن هذه التوبة بميزان الواقع، ولا نحول بينه وبين تقديرها – من حيث الصحة أو الادعاء …

والاجتهاد الثاني المهم هو الاجتهاد المعاصر في تنزيل قاعدة “درء الحدود بالشبهات” في الواقع المعاصر. فإننا لا نستطع أن نقترح تطبيق حد السرقة مثلاً والمجتمع مليء بالشبهات “الشرعية” التي تحول دون هذا التطبيق أن يكون عادلاً وأن يكون إسلاميًا. فمصر بلد تفشى فيه الجوع والفقر والحاجة والجهل، وليس من الإسلام في شيء أن نحدّ الناس في هذه الظروف، وهذه شبهة عامة تحتم علينا أن نعلّق هذا الحد مثلاً إلى حين، ولو وافق الناس على تطبيقه.
[16]

 وقبل المناداة بإقامة حد السرقة لابد –شرعًا- من تحسين مستوى المعيشة بشكل عام والحد من مشاكل الفقر والجوع والحاجة الشديدة، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد “علّق حدّ السرقة عام المجاعة”، ولابد كذلك قبل المناداة بتطبيق حد الزنا لابد [17]–شرعًا- أن نعلّم الناس ونفهمهم، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قد “رد الحدّ عن الأعجمية التي لا تفقه”[18]، فينبغي أن نراعي وأن لا ننادي بهذا الحد قبل أن نوفر العلم للناس بما يحل وما يحرم وقبل أن نوفر الظروف التي بها يتزوج الشباب ويتحصنون.

هناك أمران أخيران في قضية الاجتهاد المعاصر في الحدود يتعلقان بقضية الرجم وقضية الردة.

أما عقوبة الرجم، فإن أغلب العلماء على مشروعية الرجم للزاني المحصن أي المتزوج، ولكن هناك رأي مفاده أن الرجم هو من شريعة اليهود التي نسخها الإسلام وليس من شريعة الإسلام ، وهناك رأي آخر يراه تعزيرًا يعود للحاكم وليس هو الأصل. وهما رأيان اجتهاديان جديران بالاعتبار ذكرهما الشيخ يوسف القرضاوي وغيره. كتب القرضاوي يقول (وأنقله هنا للفائدة):
[19]

في هذه الندوة (في ليبيا عام 1972م) فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟ هذا الرأي يتعلق بقضية “الرجم” للمحصن في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: “فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب” [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” [النور: 2]. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم: هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه. وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح: “البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة”. قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال … ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية … وقلت في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم!

وللباحث الشيخ عصام تليمة بحث واف في هذه القضية، ذكر فيه:

هناك من قال بأن الرجم تعزير مفوض إلى الحاكم حيث ما يرى من المصلحة، فمنهم من قال ذلك مفصلا قوله وأدلته، وشارحا وجهة نظره، ذاكرا ما استدل به من أدلة، ومن هؤلاء: عبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد البنا، ومصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، ومحمد سعاد جلال.  ومنهم من قال بنفس رأيهم، لكنه نقل عنه نقلا، دون نقل لأدلته، إما لأنه قال رأيه شفهيا، وأسر به إلى أحد تلامذته، أو في جلسة لم تدون وقائع النقاش فيها، ومن هؤلاء: الشيخ محمود شلتوت ، والشيخ علي الخفيف ، والشيخ علي حسب الله.
[20]

والأمر الثاني هنا هو قضية الردة وهي عقوبة في الحقيقة أسيء استغلالها لتصفية حسابات سياسية قديمًا وحديثًا، ولابد فيها أن نفرق بين المرتد في نفسه فقط الذي يرى أن يغير دينه وهو ذنب كبير له عقوبة من الله تعالى في الآخرة ولكنه يدخل تحت عموم قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”[21]، وبين الذي يجمع مع ذلك جرائم أخرى كازدراء الأديان أو الحرب على الإسلام أو التشهير بالمسلمين، وعندها لابد أن يحاسب هذا الإنسان لأنه يجمع مع ردته جرائم أخرى وليس الردة كجريمة مدنية في حد ذاتها، وهذا أيضا اجتهاد معاصر مهم من أفضل ما كُتب فيه في رأيي كتاب الشيخ طه جابر العلواني، إذ كتب يقول:

تناولت فيه الأحاديث والآثار والسنن القوليَّة ذات العلاقة بالموضوع، وقد حاولت دراستها ومناقشتها لبيان أنّ عدم وجود حدٍّ شرعيّ للردّة لم يرد ما يعارضه من السنّة القوليّة -أيضاً- إضافة إلى ما كنّا قد أثبتناه من عدم وجود حدٍّ في السنّة الفعليَّة وبذلك تتضافر الأدلة -كلّها- على نفي الدليل على وجود حدٍّ شرعيّ منصوص عليه لجريمة تغيُّر الاعتقاد الدينيّ أو تغيُّر التديُّن من غير انضمام أيّ فعل جرميّ آخر إليه. فلا وجود لهذا الحدّ في القرآن المجيد وهو المصدر المنشئ الأوحد لأحكام الشريعة … ولم نجد واقعة واحدة من وقائع عصر النبوّة تشير إلى ما يمكن أن يقوم دليلاً على قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق عقوبة دنيويّة ضدّ من يغيّرون دينهم، مع ثبوت ردّة عناصر كثيرة عن الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم … وقد تبيّن أن الفقهاء كانوا يعالجون جريمة غير التي نعالجها، إذ كانوا يناقشون جريمة مركّبة اختلط فيها السياسيّ والقانونيّ والاجتماعيّ، بحيث كان تغيير المرتدّ دينه أو تديّنه نتيجةً طبيعيّة لتغيير موقفه من الأمّة والجماعة والمجتمع والقيادة السياسيّة والنظم التي تتبنّاها الجماعة، وتغيير الانتماء والولاء تغييراً تامّاً. كذلك ناقشنا دعوى الإجماع وثبت لنا وأثبتنا أنّه لم يكن هناك إجماع على وجود حدٍّ أو عقوبة شرعيّة ثابتة بالقرآن مبيَّنة بالسنّة للردّة بالمفهوم الذي أوضحنا. وبذلك ثبت أن الإنسان -في الإسلام- يملك حريّة اختيار الدين الذي يتديّن لله به وهي حريّة ذاتيّة ائتمنه الله -تعالى- عليها؛ ولذلك كانت هذه الحريّة مناط المسئوليّة الإنسانيّة، فالمكره خارج من دائرة التكليف لا يحمل مسئوليّة ما يكره عليه أو يلجأ إلى فعله مهما كان، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وحين تنتقص حريّته في الاختيار تنقص مسئوليّاته بقدر ما ينقص من حريّته.
[22]

وأخيرًا، لابد في الاجتهاد المعاصر من اعتبار التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية ايا كانت في أي مجتمع فتطبيق الأحكام الكبرى في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم كان متدرجًا، فقد نزلت حرمة الخمر على مراحل، ونزل تحريم الربا على مراحل وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق الأحكام الكبرى ونقل المجتمع من حالة إلى حالة ومن خلق إلى خلق لابد من التدرج.

ولا يملك عالم أن يخرج هذه العقوبات التي اتفق عليها العلماء من الشريعة لأنها في الحقيقة جزء لا يتجزأ من شريعة الله سبحانه وتعالى، ولكن ينبغي ترشيد الدعوات التي لا تراعي طبيعة الدولة المدنية المعاصرة من جانب، ولا تأخذ الاجتهادات المعاصرة بعين الاعتبار من جانب آخر، لأن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية ليست هي المقصودة من التشريع.

 

مسألة أن يتعارض التوافق الوطني على الدولة المدنية مع أحكام الشريعة

نجد في تراثنا الفقهي والفكري الإسلامي عددًا كبيرًا من القضايا العامة التي اعتبرها العلماء قضايا لم تأتي الشريعة فيها بتحديد نهائي لموقف معين منها أو حكم شرعي حتمي ثابت، ولهذا فقد قالوا في هذه القضايا أنها (تعود للحاكم) أو (يرجع الأمر في ذلك للأمير) أو (حسب ما يرى الإمام)، أو غير ذلك من المصطلحات التي تعود بالحكم في هذه الأمور إلى الحاكم أو الخليفة أو الأمير أو السلطان. والتراث الإسلامي في السياسة الشرعية كثيرًا ما يخول الحاكم أو السلطان أو الخليفة بسلطات لتقرير ما يرى في مسألة ما منفردًا دون الرجوع إلى الناس أو (أن يستبد بالأمر) حسب تعبير الماوردي[23].

بل ان الرأي الفقهي السائد والغالب في مسألة: هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ هو أن الشورى معلمة وليست ملزمة، أي أن على الحاكم أن يستشير الناس تطبيقًا للآية الكريمة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [24]، والآية الأخرى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) [25]، ولكن الرأي السائد في الفقه هو أن الحاكم بعد هذه الشورى ليس عليه أن يلتزم بنتائجها وإنما هي فقط لإعلامه بآراء الناس، ثم هو يتخذ من القرارات ما يشاء! ويستدل العلماء ببعض أفعال الخلفاء بعد رسول الله -رضي الله عنهم- دليلا على ذلك.

والحق أن تراثنا في السياسة الشرعية في هذه المسألة آن له أن تحدث فيه نقلة مهمة وأن يتجدد وأن يتغير من (ما يعود إلى الحاكم) إلى (ما يعود إلى الأمة)، وبين (ما يرجع الأمر فيه للحاكم) إلى (ما يرجع الأمر فيه للأمة)، وبين (حسب ما يرى الحاكم) إلى (حسب ما ترى الأمة)، وأن يتغير الحكم اليوم في قضية الشورى إلى أن تكون الشورى ملزمة وليست معلمة، أي أنه يجب ويفرض على الحاكم أن يأخذ برأي الشورى. ذلك أن الله عز وجل حين قال (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) قد قصد بهذه الآية أن يستفيد الحاكم من الرأي الجماعي، وأن يحترم رأي الناس، ومعنى احترام رأي الناس اليوم هو النزول عليه!

ولو كانت العصور الماضية قد سمحت ظروفها والحياة البسيطة البدائية آنذاك بأن يكون الأمير على حق ومستشاروه كلهم قد جانبهم الصواب، فإن تعقد الحياة اليوم، والخوف من الوقوع في الاستبداد والديكتاتورية، وابتناء الدولة المدنية أصلاً على سلطة الشعب – كل هذا يوجب أن تكون الشورى ملزمة وأن تنتقل الأحكام المذكورة والسلطات المذكورة من “الحاكم” إلى “الأمة” وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات ومصدر الشرعية.

وعودة الأمور للأمة يمكن أن تتم عن طريق وسائل كثيرة وليس شرطًا أن تتم عن طريق اختيار (أهل الحل والعقد) كما هي الطريقة القديمة، أي مجموعة من الوجهاء والعلماء يختارهم الأمير لكي يعاونوه ويشيروا عليه، بل يمكن أن تتم اليوم العودة للأمة عن طريق العودة إلى (المشرِّع) كما يعرفه الدستور في الدولة وهذا المشرع يتمثل في مجلس شعب أو سمّه برلمانا أو سلطة تشريعية أو هيئة شورية أي كانت، ولكنها هيئة منتخبة من الناس تمثلهم على اختلاف طوائفهم وهوياتهم وفئاتهم ومساحاتهم الجغرافية، أو أن تتم حسب المسألة المطروحة على الناس عن طريق العودة إلى هذه الهيئات المنتخبة عن طريق لجان متخصصة تنبثق عنها ويوكل لها البحث والدراسة والقرار في الأمور المتخصصة.

وأحيانًا ما يكون الأمر جللاً ويتطلب إلى أن يعود الممثلون عن الأمة إلى أمر الأمة عن طريق استفتاء مباشر للناس وذلك في القضايا المصيرية التي سوف تؤثر جذريا في حياتهم وينبغي أن يؤخذ فيها رأيهم. وهكذا يمكن أن يعود الأمر إلى الأمة وأن ننزل كلنا على رأي الأمة.

وأما من يقول إن العودة إلى الأمة ينبغي أن تكون مشروطة بأن “لا تخالف الأمة الشريعة”، أو أن “لا تحل الأمة الحرام أو تحرم الحلال”، فهذا الشرط مردود عليه بعدة أمور، أولها: أن تقرير “هل خالفت الأمة الشريعة؟” لابد أن يعود إلى هيئة أو إلى فرد هو أعلى من الهيئات التشريعية نفسها التي وكلت لها الأمة القرار، وهذا يؤول بنا إلى ولاية الفقيه، أليس كذلك! وولاية الفقيه نظام يعود إلى رأي فرد معين أو مجموعة معينة لمجرد أن عندهم شهادات علمية معينة في علوم الشريعة تحديداً، ثم يضعهم فوق الأمة وفوق هيئاتها التشريعية!

والحق أن قضية أن “تحلل الأمة الحرام أو تحلل الحرام” ليست دقيقة إن كان الحديث عن المسائل السياسية، لأن القرارات السياسية و”السياسات” لا تخضع للنصوص الشرعية بشكل مباشر ولو ورد فيها نصوص شرعية.

أما إن كان الحديث هو عن مسائل دينية يدعي البعض أنها قد تحولت من حرام إلى حلال أو حرام إلى حلال وهي أمور ليست قطعية في الدين بل هي اجتهادات تختلف فيها الأنظار، فلابد أن يحترم الجميع رأي الأمة وأن الأمة يحق لها أن تختار في الأمور الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار.

ثم إننا ينبغي أن نفرق بين التحليل والتحريم وبين التشريع وعدم التشريع، لأنه ليس كل ما هو حلال في شرع الله ينبغي أن يكون جائزًا بالقانون، وليس كل ما هو حرام في شرع الله ينبغي أن يجرّم في القانون، وليس كل ذنب جريمة – كما سيأتي في فصل لاحق.

وأخيرًا: حتى ولو فرضنا أن الأمة أو المجلس التشريعي سوف يقرر أمرًا يختلف عن أو يتناقض مع المعلوم من دين الله بالضرورة فلا يمكن أن نجبر الناس على الحق: (فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[26]، ولكنّ كل التصورات الواقعية تشير إلى أن هذا الاحتمال من المستبعد بالمرة حدوثه. وحتى لو حدث وخالفت جموع الأمة الشريعة فماذا نفعل؟ ليس أمام الذي يظن أن الأمة حرمت حلالاً أو حللت حرامًا إلا أن يطعن دستوريًا في هذا، أي ليس له إلا أن يرد الأمر الذي صدر من خلال النظام نفسه. وهكذا تتثبت معالم النظام المدني الدستوري المنشود، وتتثبت سلطة الأمة، ونتجنب الاستبداد، وهكذا يمكن للحاكم أن يكون خادمًا للشعب وأن تكون سلطاته تنفيذية بحتة، وهو أساس في الدولة المدنية المعاصرة.

[1] راجع الدراسات حول الربيع العربي والمصطلحات السياسية الجديدة في: شبكة السلام والتنمية العالمية: http://www.internationalpeaceandconflict.org.

[2] البخاري (853)، من حديث ابن عمر.

[3] المائدة 38

[4] النور 2

[5] النساء 15

[6] النساء 16

[7] المائدة 33

[8] المائدة 45

[9] البقرة 179

[10] النور 4

[11] راجع كتابان مهمان لأستاذين لي صدرا مؤخرا في هذا الموضوع: يوسف القرضاوي، جريمة الردة وعقوبة المرتد، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 2005م، وطه جابر العلواني، لا إكراه في الدين: دراسة في إشكاية الردة والمرتدين، مكتبة الشروق الدولية, القاهرة، 2003م.

[12] المائدة 33

[13] راجع عرض لآراء المذاهب المختلفة في: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط10، 1989 م – فصل مسقطات الحد.

[14] راجع رأي الدكتور توفيق الشاوي في: توفيق الشاوي، الموسوعة العصرية في الفقه الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة، القاهرة، الشروق ط1، 2001 م – فصل الشروع والاشتراك والتوبة.

[15] راجع رأي الدكتور العوا في: محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، دار نهضة مصر، 2006م.

[16] راجع رأي الدكتور طارق رمضان في: Ramadan, Tariq, “Stop in the Name of Humanity.” Globe and Mail (London) Wednesday, March 30, 2005.

[17] راجع: محمد البلتاجي، منهج عمر بن الخطاب في التشريع: دراسة مستوعبة لفقه عمر وتنظيماته. القاهرة: دار السلام، الطبعة الأولى، 2002 م، ص 190.

[18] نفس المصدر السابق.

[19] راجع مذكرات الشيخ القرضاوي: ابن القرية والكتّاب، في www.qaradawi.net.

[20] نسخة إلكترونية من الباحث. راجع: www.leadersta.com

[21] البقرة 256، ونفي النفي معنى أقوى من الإثبات، أي أن تعبير نفي الإكراه في الدين أقوى من تعبير الحرية الدينية.

[22] راجع موقع الشيخ طه جبر العلواني: www.alwani.net/books.php

[23] الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، ص100، دار الفكر، ب ت.

[24] الشورى 38

[25] آل عمران 159

[26] يونس 99