مدخل مقاصدي للاجتهاد:

حل التعارض ودلالة المقصد نموذجين

جاسر عـودة

مقدمة

انتقد عددٌ من العلماء المعاصرين عِلمَ أصول الفقه في درسه التقليدي نظراً لعدم ارتباطه الواضح بمقاصد الشريعة الإسلامية وأغراضها. فكتب مثلاً الشيخ عبد الله دراز في مقدمة هوامشه الهامة على موافقات الشاطبي أن الفقهاء أغفلوا علم أسرار الشـريعة ومقاصدها إغفالاً، “مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جُلبت إلى الأصول من علوم أخرى”.[1] وكتب الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه عن مقاصد الشريعة يقول إن “معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكِّن العارف بها من … تأييد فروعٍ انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول”.[2] بل ووصف ابن عاشور الأصوليين عموماً في كتابه حول إصلاح التعليم “بالغفلة عن مقاصد الشـريعة”.[3] وكتب الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام الشافعي يقول إن “علماء الأصول من لدى الشافعي لم يكونوا يتجهون إلى بيان مقاصد الشريعة العامة … فكان هذا نقصاً واضحاً في علم أصول الفقه؛ لأن هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه”.[4]

وإذا كان لهذا النقد وأمثاله وجاهة فيما يتعلق بنظريات الأصول المدونة في كتب أصول الفقه، فإنني لا أراه ينطبق على استنباط الأحكام نفسها في مذاهب الفقه الإسلامي، إذ أن اعتبار المقاصد الشرعية في استنباط الأحكام العملية قد اتخذ أسماء مختلفة اتَّفقت في المعنى وإن اختلفت في الألفاظ، مثل اعتبار مناسبة العلة عند الشافعية[5] (وهو المعنى المقاصدي الذي ناطوا به الحكم وجوداً وعدماً)، واعتبار المصلحة أصلاً للاستحسان عند الحنفية (وهو أيضاً معنى مقاصدي يقاس عليه الحكم وإن خالف العلة الظاهرة المنضبطة)، واعتبار “المصلحة” الذي طالما رجع إليه المالكية ومتأخري الحنابلة في فهمهم للنصوص واستنباط الأحكام منها،[6] واعتبار أصول الاستصحاب المختلفة عند من أخذ بها من الظاهرية وغيرهم (وهي كذلك معان مقاصدية يبنون عليها الأحكام)، بل واعتبار معان أخرى نجدها شائعة عند الفقهاء وإن لم يفردوها بالحديث، كغرض الشارع،[7] وما أراد الشارع،[8] وما تشوّف الشارع إليه،[9] وحتى تعبير المصلحة المرسلة،[10] وهو الذي لا يصح حصر المقاصد الشرعية تحته لأن مصطلح المصلحة المرسلة يُقْصَدُ به مصلحة لا يشهد لها دليل خاص باعتبار ولا بإلغاء، وهذا لا ينطبق على المقاصد التي تشهد لها النصوص بل هي مستقراة من النصوص بنوع من التواتر قد يكون أقوى من الدليل الخاص.

هذا وقد وصاحَبَ النقد المذكور لعلم الأصول محاولات منهجية لتجديد أصولي معاصر عن طريق المقاصد، والتي كان من أبرزها توظيف المقاصد في “إخراج النظر الفقهي من الجزئيةِ إلى الكلية”، و”توسيع القياس”، وما شابه ذلك من المصطلحات. وجدير بالذكر أن هذه الأطروحات التجديدية قد بَنَت على ما نبه عليه أئمة الأصول من قديم، من مراعاة للمصالح الكلية في الاجتهاد، وهو ما عبَّر عنه الإمام الجويني مثلاً بالقياس الكلي،[11] وعبَّر عنه الإمام الشاطبي بثبوت القواعد الكلية في مقابل آحاد الجزئيات.[12]

أما في البحث المعاصر، فقد كتب الشيخ يوسف القرضاوي عن “أهمية الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية”، وعن “التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة”،[13] واقترح الدكتور حسن الترابي ما أسماه “القياس الواسع”، وهو: “أن نتسعَ في القياس على الجزئياتِ، لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جُمْلَتِها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحةً معينةً من مصالحه، ثم نتوخَّى ذلك المقصد حيثما كانت الظروف والحادثات الجديدة، وهذا فِقْهٌ يقرِّبنا من فقه عمر”.[14] ودعا الدكتور حسن جابر إلى منهج تحكم فيه كليات المقاصد على جزئيات الفقه.[15] وأصّل الشيخ الدكتور طه جابر العلواني لما أسماه بفقه المقاصد الذي: “ينطلق من منهج استقرائي شامل، يحاول الربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام، دلَّت على اعتبار الشرع له الكثير من الأدلة، وتضافرت عليه العديد من الشواهد، وبذلك يُعتبر هذا القانون الكلي مقصِداً من مقاصد الشريعة، فيتحوَّل إلى حاكم على الجزئيات قاض عليها بعد أن كان يستمدُّ وجودَه منها”.[16] ورفض الدكتور محمد سليم العوا تسميةَ تصرُّفاتِ الصحابة -التي نذكر بعضها لاحقاً- تغييراً للأحكام، وفضَّل تسميتها: “اتّباعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في إِدَارةِ الأحكامِ على المَصَالحِ، والعملِ بِها ما أدَّت إلى تحصيلِ مقصودِها”.[17]

وإنني في ضوء هذه الاجتهادات القيّمة، سأقترح في ما يلي طريقتين للاجتهاد المقاصدي في مجالين من مجالات استنباط الأحكام الهامة، ألا وهما دلالات النصوص وحل التعارض.

دلالة النص بين مدرسة الظاهر ومدرسة التأرخ

تقف المناهج المعاصرة موقفين متناقضين من قضية الدلالة، بين الاقتصار على دلالات ألفاظ النصوص وبين إهمال النصوص الشرعية جميعاً من باب “التأرُّخ”. أما دلالة العبارة –حسب تعبير الأحناف ومن تبعهم- أو دلالة الصريح أو المنطوق –حسب تعبير الشافعية ومن تبعهم- فهي ملزمة للمكلف ما لم يرد نص بتخصيص أو نسخ، على تفصيل في ذلك عند مذاهب الأصول.[18] وأوضح أنواع الألفاظ هو اللفظ المحكم، ثم يليه النص (أو الظاهر)، ثم اللفظ المفسر (ووضوحه حسب ما يفسره). ولكنّ الاقتصار في استنباط الأحكام على هذه الدلالات المذكورة ووضع اللفظ المفسر (أي الذي يحتاج إلى ما يفسره) في آخر قائمة الألفاظ من حيث وضوحها، حدّ من مدى الاجتهاد والتجديد المتاحين. وصدقت مقولة شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور إن الأصوليين “قَصَرُوا مباحثَهم على ألفاظ الشريعة”.[19]

وأما التَّأَرُّخُ[20] فهو مفهومٌ ظهر في اتجاهات “ما بعد الحداثة” الفلسفية، يفصل بين الدال والمدلول عن طريق ربط النصوص المكتوبة أياً كانت كلياً وجزئياً بسياقها التاريخي، وبما يطرأ على هذا السياق من تطور تاريخي.[21] وقد طبق الألسنيون المعاصرون هذا المفهوم لتحقيق ما أسموه “بتفكيك النص”،[22] مقدساً كان أو غير مقدس، أي عن طريق تحليل الإطار الثقافي والتاريخي للألفاظ. وتبعهم في ذلك مسلمون دعَوا إلى مدرسة “تَّأرُّخية إسلامية”، تسقط وتنهي ما أسموه بسلطة النص.[23] ورأوا أنه لا ينبغي الالتزام بالتفسير التقليدي للنصوص ولا إعادة تفسيرها حسب العصر لأن ذلك عندهم يعزز “الأصولية المبنية على النص”.[24] بل دعا بعضهم إلى استبدال المفاهيم (التَّأَرُّخيَّة) مثل الجنة والنار والآخرة بمفاهيم الحرية والطبيعة والعقل.[25](!)

والخطأ الذي وقع فيه “المُتَأَرِّخون” هو قياس النصوص والمؤلفات البشرية التي هي فعلاً محصِّلة الثقافات والتصوُّرات المتغيرة، على النص الإلهي الذي يختلف في مصدره ومقاصده عن مصادر ومقاصد البشر. وبالتالي فمفهوم “تأرخ القرآن” لا يتفق مع الإيمان بقداسة كلام الله ووحيه المباشر إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. ومآلُ هذا المفهوم هو فقدانُ الأمة لمصدرها المعرفي الرئيسي، وسقوطها في شَرَك الانقياد الأعمى لغيرها من الأمم.

والمقاصد الشرعية تعزز من مفاهيم العقل والعدل والعلم والحرية (التي ينادي بها الناس جميعاً)، ولكنها لا تضعها في وضع مناقض أو متحدٍّ لمفاهيم الإيمان والعبادة والجنة والنار وغيرها من لوازم الإسلام، وهي لا تُماري في “سلطة النص”، ولكنها تحقق مناط النص في موضعه الصحيح تبعاً لمقصود الشارع الحكيم.

أصل في “دلالة المقصد”: حديث (صلاة العصر في بني قريظة)

ورد في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي! لم يُرِدْ منا ذلك [أي أنه أراد الإسراع]. فذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلملم يعنِّف واحداً منهم”.[26] وفي رواية مسلم: “وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت”.[27]

هذا الحديث الثابت أصلٌ مهم في جواز استنباط مقصِد (جزئي) من نص شرعي بالظن الغالب، بل وجواز إدارة الحكم العملي مع هذا المقصِد المستنبط وإن خالف دلالة الظاهر. فالصحابةُ الذين قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قَصَدَ إلى الإسراع وليس إلى عين الصلاة في بني قريظة، خالَفوا دلالة الظاهر -وهي الأمر الذي يقتضي الوجوب- بصلاتهم في الطريق، والذين أصرُّوا على الصلاة في بني قريظة ولو بعد وقت الفريضة، استمسكوا بحرفية الأمر، ووكلوا القصد منه إلى الله ورسوله. أما إقرارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل الفريقين، فهو أصلٌ ودليلٌ على جواز الأمرَيْن والمنهجَيْن. وسوف نعتبر “دلالة المقصد” (وهي فرع من “دلالة الغاية” كما هي عند الحنفية) في الأمثلة التالية، احتذاءً بهذا الأصل.

دلالة المقصد في: “ليس على المسلم في فرسه صدقة”

“روى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول: ابتاع عبد الرحمن بن أمية من رجل من أهل اليمن فرساً أنثى بمائة قلوص، فندم البائع، فلحق عمر فقال: غصبني يعلى وأخوه فرساً لي. فكتب إلى يعلى أن الحق بي، فأتاه فأخبره الخبر، فقال: إن الخيل لتبلغ هذا عندكم! ما علمت أن فرساً يبلغ هذا، فنأخذ عن كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئاً، خذ من كل فرس ديناراً. فقرَّر على الخيل ديناراً ديناراً”.[28]

وقد كتب الشيخ القرضاوي في “فقه الزكاة” يقول: “إنَّ الزكاة إنما شُرِعَتْ لسَدِّ حاجة الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل، ولإقامة المصالح العامة للمسلمين كالجهاد في سبيل الله وتأليف القلوب على الإسلام … ومن المستبعد أن يكون الشارع قد قَصَدَ إلقاءَ هذا العبء على مَنْ يَملك خمساً من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسةَ أَوْسُقٍ من الشعير ثم يعفي كبار الرأسماليين”. ثم قال: “قصة عمر مع يعلى بن أمية لها في نظري أهميةٌ بالغةٌ في باب الزكاة. فقد دلَّ تصرُّف عمر رضي الله عنه على أن للقياس فيها مدخلاً وللاجتهاد مسرحاً، وأنَّ أَخْذَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الزكاة من بعض الأموال لا يمنع مَنْ بَعْدَهُ أن يأخذوها من غيرها مما ماثلها، وأنَّ أيَّ مالٍ خطيرٍ نامٍ يجب أن يكونَ وعاءً للزكاة، وأنَّ المقادير فيما لا نصَّ فيه تخضع للاجتهاد أيضاً. هذا وقد أجاب الجمهور عن هذه القصة بأن ذلك اجتهادٌ من عمر، فلا يكون حجة”.[29] وقد تشدد الظاهرية في عدم اعتبار مقاصد الزكاة المعقولة المعنى وحصروا الزكاة في الأصناف المذكورة في حديث رسول الله فقط ولم يعتبروا غيرها. قال ابن حزم: “لا زكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط، وهي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وماعزها فقط … وفيها جاءت السُنَّة … ولا زكاة في شيء من الثمار ولا من الزرع ولا في غير ما ذكرنا ولا في الخيل ولا في الرقيق ولا في العسل ولا في عروض التجارة.. “.[30]

وعلى هذا، فعمر لم يقتصر على دلالة الظاهر (أو دلالة النص) في الحديث الذي رواه الجماعة “ليس على المسلم في فرسه صدقة”،[31] وهو –بتعبير الأصوليين- لفظ عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء. وإنما فهم عمر رضي الله عنه المقصد الاجتماعي والاقتصادي من الزكاة وسعى لتحقيقه عن طريق المرونة في وعاء الزكاة حسب تغير البيئة وقيم الممتلكات. وهذا الاجتهاد يحقق أيضاً مقصد عالمية الشريعة التي لم تنزل لبيئة العرب وحدها وإنما نزلت لكل زمان ومكان، وهو تجديد منضبط ومطلوب وإلا فوتنا مقاصد الزكاة وتجاوزنا العدل الذي هو عمدة المقاصد العامة والخاصة.

دلالة المقصد في: “من قتل قتيلاً فله سلبه”

“عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله، فبلغ سَلَبُه ثلاثين ألفاً. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نُخَمِّسُ السَلَبَ وإنّ سَلَبَ البراء قد بلغ مالاً كثيراً ولا أراني إلا خَمَّسْتُه”. ولكنّ الفقهاء اختلفوا في تفسير فعل عمر رضي الله عنه، وقد رَصَدَ ابن رشد هذا الخلاف: “قال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة من السلف: واجبٌ للقاتل؛ قال ذلك الإمام أو لم يقله”. ثم علق ابن رشد: “وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال: من قتل قتيلاً فله سلبه، أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النَّفْل أو على جهة الاستحقاق للقاتل”.[32]

ولفظ الحديث أيضاً عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء، حسب تعبير الأصوليين. ولكنّ عمر رضي الله عنه فهم دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم في إطار مقاصد الإمامة، فنظر إلى المصالح والمفاسد وليس إلى ظاهر الدليل. فلو لم يخمّس هذا السلَب الكبير لضاع على المسلمين ثرواتٌ كبيرةٌ، ولقصد كل محارب ذوي الأسلاب الكبيرة فقط دون مَنْ سواهم ابتغاء عرض الدنيا، وهو ما يناقض أيضاً المقاصد الشرعية الخاصة بباب الجهاد حسب التقسيم الذي ذكر آنفاً. ذكر القرافي في “فروقه” ما يلي: “الفرق السادس والثلاثون: بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة … تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة … [أما] بعث الجيوش … وصرف أموال بيت المال … وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود … فهذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها.[33]

دلالة المقصد في: “والمؤلفة قلوبهم”

روى الجصاص في أحكام القرآن: “جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سَبْخَة، ليس فيها كلأٌ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها. فأقطَعَها إياهما، وكتب لهما عليها كتاباً وأشهد -وليس في القوم عمر- فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما. فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَلَ فمَحَاه، فتذمَّرا وقالا مقالةً سيئة، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفُكُما والإسلام يومئذٍ قليل، وإنَّ الله قد أغنى الإسلام!”. ولكن بعضهم فهم من هذا أن عمر قد “نَسَخَ الحُكْم”.[34] ولكن ابنُ الهمام رَدَّ على القائلين بالنسخ في هذه المسألة بقوله: “العِلَّة للإعزاز، إذْ يُفعل الدَّفْعُ ليحصل الإعزاز، فإنما انتهى ترتُّبُ الحكم -الذي هو الإعزاز- على الدَّفْع- الذي هو العِلَّة. وعن هذا قيل: عدم الدَّفْعِ الآن للمؤلَّفة تقريراً لما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا نَسْخ، لأن الواجب كان الإعزاز، وكان بالدفع، والآن هو في عدم الدفع”.[35]

ورغم تأييدي لرأي ابن الهمام أن دعوى النسخ باطلة (ولا نسخ بعد عصر الرسالة على أي حال)، إلا أن الإعزاز هنا مقصِد وليس علة، حسب التعريف الأصولي للعلَّة بأنها “وصف ظاهر منضبط”، لأن الإعزاز وصفٌ متغيرٌ بتغيُّر الأحوال، وبالتالي فهو غير منضبط. وعلى هذا فعمر رضي الله عنه قد فهم علة النص ودلالة الآية من خلال المقصد، لأنه اعتبر الظروف التي تغيرت، فأصبح تَقَوِّي المسلمين بهؤلاء المؤلَّفين غير مطلوب (في زمانه).

وهذه الأمثلة السابقة كلها تدل على ما وراءها، والمقاصد إذن تقدم منهجاً وسطاً يدور مع متغيِّرات الواقع في بُعْدَيْ الزمان والمكان. كتب الإمام الشاطبي يقول: “الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح. فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار. وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد. فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقاً: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع”.[36]  

حل التعارض بين مسلك النسخ ومسلك تحقيق المقاصد على اختلاف الظروف

اتفق المنطقيون والأصوليون والمحدِّثون على تحديد نوعين مختلفين للتعارض، وإن اختلفت مسمياتهم لهما، الأول هو التعارض في نفس الأمر، ويُطلق عليه أيضاً التناقض المنطقي، والتقابل المنطقي، والتعارض الحقيقي،[37] والثاني هو التعارض في نظر المجتهد، أو ذهن العالم، ويطلق عليه أيضاً التعارض الظاهري، والاختلاف.[38]

أما التناقض المنطقي في نفس الأمر، فعرَّفه السَّرخسي بقوله: “تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى، كالحلِّ والحرمة، والنفي والإثبات”.[39] وهذا لا يجوز على النصوص الشرعية، سواء كتاب الله تعالى أو كلام رسوله، إلا ما قد يحدث من تناقض في روايات الحديث، “بما يحصل من خلل بسبب الرواة”،[40] كالذي أخرجه أحمد أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: “إن أبا هريرة يحدّث أن نبي الله كان يقول: إنما الطِيَرة في المرأة والدابة والدار”. فقالت: “والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن كان نبي الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة”.[41] وهذا لا يحتمل إلا صحة إحدى الروايتين وعدم صحة الأخرى. ولكن هذا النوع من التناقض نادر وأثره في الفقه محدود.[42]

أما الغالبية العظمى من حالات التعارض التي لها أثر في الفقه فهي حالات تعارض ظاهري، وهو “ما يبدو لأفهامنا أنه تعارض، مع أنه ليس تعارضاً في الحقيقة”.[43] وتَعامل العلماء مع هذا النوع من التعارض باتباع طرق منهجية، رتبت على هيئة خطوات محددة اختلف العلماء في ترتيبها. وهذه الطرق هي: الجمع، والنسخ، والترجيح، والتوقف، والتساقط، والتخيير.[44]

أما ترتيب العمل بهذه الطرق المنهجية فالخلاف فيه متشعب، ولكن ظهر لنا -من استقراء حالات التعارض المتنوعة- أن العمل بالتوقف والإسقاط والتخيير كان نادراً. وأما الأَولى من هذه الطرق، فهو عند العلماء بين الجمع وهو رأي الجمهور، والنسخ وهو رأي الأحناف. ولكن الإحصاء لحالات التعارض في علم مختلف الحديث يظهر أن الجمع كان قليلاً –رغم أولويته نظرياً- وأن الفقهاء استخدموا النسخ في غالب أحوال التعارض، واستخدموا الترجيح أحياناً. ولكن المقاصد الشرعية يمكنها أن تقدم منهجاً للجمع بين المتعارض وإعمال كل النصوص –وهو أولى باتفاق- كما يظهر في ما يلي من الأمثلة.

فهم التصرفات النبوية عن طريق ملاحظة المقاصد

اشتهرت في كتب الأصول أمثلة لأحكام إباحة لثلاثة أمور اعتُبرت “ناسخة” لما قبلها من أحكام بالنهي تعارضت معها، حسب فهم كثير من الأصوليين، وهي: الانتفاع بلحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، والانتباذ في كل وعاء إلا مسكراً، وزيارة القبور. وهذه أطراف من روايات الحديث المتعلقة بتلك الأحكام.

فقد روى مسلم في باب سماه: ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه إلى متى شاء، يقول صلى الله عليه وسلم: “إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا”.[45] فرأى الجمهور في هذه المسألة تعارضاً بين حكمي التحريم والتحليل، ولذلك قالوا بلزوم النسخ. إلا أن عائشة رضي الله عنها –مثلاً-لم تر في الأمر نسخاً، وأوضحت أن النهي لم يكن للتحريم وإنما كان القصد منه التوسعة ليس إلا، فقالت: “لم يكن حرَّمها، ولكنَّه أراد التوسعة على الدافّة التي قد دفّت عليهم”.[46] وهذا نص صريح على أن النهي الأول لم يكن للتحريم رغم لفظ النهي، وأن قضية مرور ثلاثة أيام ليست هي العلة المقصودة، وإنما العلة كانت سد جوع بعض المسلمين المحتاجين، وهو نفسه مدار الأمر الإلهي المتعلق بالمسألة. قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج: 28).

وإذا وسعنا مجال الاستنباط الفقهي ليتجاوز المنطق الثنائي التبسيطي في مذهب النسخ، وتفكرنا في المقصد الشرعي العام لروايات لحوم الأضاحي، لوجدنا في هذه الأحاديث دلالة أن للإمام المسلم صلاحيات -بل واجبات- في اتخاذ تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، مثل حفظ النفوس من ضرر الجوع عن طريق نشر معاني التكافل بين المسلمين، كما في هذا المثال، مع موازنة ذلك بأصل إباحة التملك الحر وانتفاع الناس بما يتمولون على المستوى الفردي. وهذا المسلك في فهم الأحكام الشرعية يقربنا من منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقهي والسياسي، ويساعدنا على توظيف هذه النصوص في بناء المجتمع الإسلامي الذي يوازن بين الحقوق الفردية والمصالح العامة في ضوء من مقاصد الشريعة.

أما قضية التعارض في “الانتباذ”، فقد روى ابن حبان في صحيحه -في باب سَمَّاه “ذكر العِلَّةِ التي من أجلها زُجِر عن الشرب في الحناتم”- عن أبي هريرة قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وفد عبد القيس عن النبيذ في الدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير، والمزادة المجبوبة، وقال: انبذ في سقائك وأَوْكِه واشربه حلواً طيباً، فقال رجل: يا رسول الله ائذن لي في مثل هذه، وأشار النضر بكفه، فقال: إذاً تجعلها مثل هذه، وأشار النضر بباعه، قال أبو حاتم: قول السائل ائذن لي في مثل هذا أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها، فلم يأذن له النبي مخافة أن يتعدى ذلك باعاً، فيرتقي إلى المسكر، فيشربه”.[47]

اعتبر الفقهاء أن “العلة” من التحريم هي الأوعية المذكورة، ولذلك رأوا في الأمر تعارضاً اقتضي القول بالنسخ. أما إذا نظرنا إلى المعنى المقصود لوجدنا أن القوم كانوا يستخدمون هذه الأوعية المخصوصة لصنع ما يُسكر، فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تربية أصحابه بسدِّ ذريعة الشراب المسكر لفترة من الزمان، ثم حين تدربوا على ترك ذلك الشراب المسكر ردّهم إلى الأصل -وهي القاعدة العامة- أن كل مسكر حرام، فالقضية إذن كانت قضية تربوية بسد الذرائع في المقام الأول.

أما النهي ثم الإباحة في مسألة زيارة القبور،[48] فقد علق البيضاوي عليه قائلاً: “فزوروها … الفاء متعلق بمحذوف أي: نهيتكم عن زيارتها مباهاة بالتكاثر فعل الجاهلية، أما الآن فقد جاء الإسلام وهدمت قواعد الشرك، فزوروها فإنها تورث رقة القلب وتذكّر الموت والبِلا”.[49] فقد كانت قبائل مكة ويثرب على حد سواء تتفاخر بآبائها إلى حد زيارة المقابر للإشارة إلى قبر فلان أو فلان بدلاً من اتخاذها عبرة وعظة. فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفظ الدين –بمعنى العقيدة السليمة- في أمره الأول من عدم زيارة المقابر. ثم إنه أذن لهم في الزيارة -وهو الحكم الأصلي- بعد أن ذهبت نعرات الجاهلية، وأوصاهم بعدة وصايا عند الزيارة كان منها ألا يقولوا هجراً، حتى لا يعودوا إلى مثل قول الجاهلية. وهذه القضية تشبه قضية الانتباذ في قصد التربية بسدّ ذرائع المعصية، والقضيتان تشتركان مع قضية الأضاحي في الدلالة على وجوب اتخاذ الإمام المسلم تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، ليس إلا.

وهذه الأمثلة الثلاثة تدل على ما وراءها من التصرفات النبوية الشريفة -على صاحبها الصلاة والسلام- في الأمور السياسية، والاقتصادية، والتربوية، والعسكرية، والصحية، والبيئية، والتي قد تختلف حسب الظروف التي عايشها صلى الله عليه وسلم على مدار مراحل الرسالة المختلفة، وتصل إلينا بالتالي في صورة “نهيٍ بعد إباحة” أو “إباحة بعد نهي”. ولكنَّنا ينبغي أن نفهمها كلَّها في إطارٍ واحد من مقاصد الإمامة في حفظ عقائد الناس وأموالهم ونفوسهم، دون حاجة لمسالك النسخ والترجيح بين نصوص كلها ثابتة محكمة.

إن النصوص الشرعية من كتاب وسنة هي عماد الشريعة، ونسخها وإلغاء تأثيرها إلى الأبد لابد أن يكون منصوصاً عليه صراحة حتى لا يُفتح الباب لإبطال معالم الشريعة بمجرد الرأي، كما حدث قديماً وحديثاً! أضف إلى ذلك أن الآيات والأحاديث التي ادُّعي نسخها قد أُبطل عملها التشريعي، رغم أنها آيات محكمات أو أحاديث بينة ثابتة، أراد الشارع لها أن تعمل في حالات وظروف غير حالات وظروف الآيات التي ادُّعي أنها نسختها. وقد أدى هذا الإبطال لكثير من النصوص الشرعية إلى تقييد قدرة الفقهاء على تغيير الفتاوى اعتماداً على النصوص و-بالتالي- قدرتهم على التعامل مع ما يجدّ من حوادث، وأدى أيضاً إلى تقييد قدرة الأصوليين على استنباط القواعد الكلية والمقاصد العالية من مجموع الجزئيات، وكل ذلك أدى إلى تقليص التجدد والمرونة في الفقه الإسلامي كما أرادها الشارع سبحانه وتعالى.

حل التعارض عن طريق اعتبار التنوع المقصود

من رحمة الشارع عز وجل أن جعل السماحة والتيسير من مقاصد الشريعة.[50] ومن التيسير والسماحة أن راعى الشارعُ التنوع في المكلفين، فجعل الشريعة عالمية باعتبار بُعد المكان، وخالدة باعتبار بُعد الزمان، وهي بذلك تشمل الناس جميعاً. وقصد الشارع الحكيم كذلك إلى أن تتنوع أشكال وصور الأحكام من أجل استيعاب ذلك التنوع في الناس وبيئاتهم وأزمانهم، بل وتنوع قدراتهم البشرية. والحق أنه لا دليل على الفرضية المسبقة عند كثير من الفقهاء أن لكل حكم وكل عبادة صيغة واحدة لا تتنوع، ولو قصرت أفهامنا عن الوصول لحكمة هذا التنوع على التفصيل، مما أدّى بهم إلى ضروب من توهم التعارض في كثير من الأحوال وضروب من التناسخ والترجيح غير المنهجي بين نصوص كلها محكمة ثابتة سنداً ومتناً.

ومثال ذلك مسألة رفع اليدين في الصلاة، التي اشتهرت فيها مناظرة الإمامين أبي حنيفة والأوزاعي، حين قال الأوزاعي: “أُحدِّثك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وتقول حدثني حماد عن إبراهيم؟” فرد أبو حنيفة: “كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمةَ ليس بدونٍ من ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر فضل الصحبة فالأسود له فضل كثير، وعبدالله عبدالله”[51] – هذا رغم أن الحديثين موضع الخلاف صحيحان في أعلى درجات الصحيح سنداً ومتناً، ولا داعي “للانتصار لأحد المذهبين”، كما ذُكر. وكالذي ورد في روايات التشهد المختلفة، وتوقيت سجود السهو،[52] وصيغ التكبير في صلاة العيد،[53] وصيغ صلاة الخوف،[54] وما كان على الخيار في الكفارات، ككفارة الجماع في نهار رمضان،[55] وغيرها من الأحكام.

ومن مقتضيات مقصد السماحة الذي يقتضي اعتبار التنوع أن يُعتَبَر حال المكلف بالحكم، من حيث قوته أو ضعفه، وشبابه أو هرمه، وغناه أو فقره، وأمن الفتنة منه من عدمها، وهكذا. ومثال ذلك حكم حضانة الأم إذا تزوجت، الذي ألحق بالمتعارض نظراً لاختلاف الروايات فيه، وأدى إلى ضروب من الترجيح للانتصار لأحد الرأيين، رغم أن المسألة مدارها -كما يرى كثير من العلماء- على “مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قُدمت عليه … وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا”.[56] وكالتعارض في حكم الأضحية بين الوجوب وعدمه،[57] رغم أنَّ الأوزاعي وأبا حنيفة واللَّيث ذهبوا إلى أن الأضحية واجبة على الموسر فقط،[58] وهو رأي يعمل الروايات الصحيحة كلَّها عن طريق مراعاة حال المخاطب بالحديث وهي مراعاة مقصودة لتنوع الناس وإمكاناتهم. وقس على ذلك.

حل التعارض عن طريق اعتبار التدرج المقصود

من سنن الله تعالى في الفطرة البشرية صعوبة التغيُّر، خاصة فيما يتعوده الإنسان. والصحابة رضي الله عنهم كانوا قد تعوّدوا قبل الإسلام عادات قد صارت جزءً من حياتهم. فلمّا جاء الإسلام بآداب وأحكام تتناقض مع بعض هذه العادات كان من رحمة الله تعالى ومن حكمة رسوله صلى الله عليه وسلم التدرج في تطبيق هذه الأحكام، وكان هذا التدرج من المقاصد والسمات العامة في عهد الرسالة. ومثال ذلك ما حدث من تدرج في تحريم الخمر والربا على مراحل بدأت جزئية وانتهت إلى الاجتناب التام، والصلاة مرتين ثم خمس مرات، وصيام بضعة أيام في العام ثم فرض صيام رمضان كله، وإباحة التكلم في الصلاة ثم تحريمه.

وتسمية مراحل التطبيق “أحكام منسوخة” تسمية غير دقيقة. فلم يكن هناك أبداً “حكم شرعي” يبيح الخمر في الليل أو الربا غير المضاعف، وإنما حكم الخمر والربا واحد في دين الله وهو التحريم، ولكن التطبيق كان تدريجياً. كما أن تسمية مراحل التطبيق أحكاماً منسوخة أو ملغاة يقتضي عدم جواز إعمالها بحال، وهو ما أثبت استقراء الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه. فقد وجدنا في كلٍّ من حالات التدرج التطبيقي رواية أو أكثر تثبت أن الحكم المتأخر بقي أصلاً ولكنّ الحكم المتقدم بقي صالحاً في حالات خاصة أو على سبيل الرخصة، كالذي رواه أبو داود وأحمد عن عبد الله بن فضالة عن أبيه قال: “علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما علمني أن قال: حافظ على الصلوات الخمس، فقلت: هذه ساعات لي فيها اشتغال، فحدثني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، قال: حافظ على العصرين، قال: وما كانت من لغتنا قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها”.[59] ولأحمد في مسنده رواية مشابهة ترجم لها الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في الفتح الرباني بعنوان: “فصل في ترغيب المشركين في الإسلام وتأليف قلوبهم”.[60] ومثله حديث أبي داود عن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: اشترطت على النبي أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: “سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا”.[61]

وقصد التدرج في تطبيق الأحكام سنة نبوية هامة لها فائدة عملية في الواقع، خاصة في حالات التطبيق العام للأحكام في مجتمعٍ ما بعد طول بُعْدٍ من الناس عن هذه الأحكام، وفي حالات المسلمين الجدد. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عمّا أسماه “التناقض المتوهم” في مذاهب النسخ: “التشريعات النازلة في أمرٍ ما مرتبة ترتيباً دقيقاً بحيث تنفرد كل آية بالعمل في المجال المهيأ لها … فهل هذا التدرج في التشريع يسمى نسخاً؟ إن الأدوية تبقى ما بقيت الأدواء المرصودة لها، والدواء الذي ينجح في علاج حالة ما ربما لا يذكر في علاج حالة أخرى مخالفة، وهذا لا يعد غضاً من قيمته. بل إن المرض الواحد قد يحتاج إلى سلسلة متعاقبة من الأدوية، تستقيم مع مراحل سيره، وضروب مضاعفاته وأعقاب الخلاص منه … ونصوص القرآن لا تخرج عن حدود هذا الشبه! وقد عجبنا من استشراء القول بالنسخ عند المفسرين”.[62]

حل التعارض عن طريق اعتبار مقصد العالمية

لفظة العرف وردت في قوله سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ (النحل: 199). وقد اختلف المفسرون في معنى العرف الوارد في هذه الآية فيما يمكن حصره في قولين: قول يعمم العرف فيُدخل فيه “ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة”،[63] وقول يحصره في “المعروف” وهو مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام وهو الرأي الذي ذهب إليه أغلب الأصوليين.[64] وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم الأعراف -بمعنى العادات القولية والفعلية- السائدة في قومه صلى الله عليه وسلم، ما لم تتعارض مع المعروف -بمعنى الأخلاق والمبادئ الإسلامية. وهذه الأعراف ليست جزءاًً من الشريعة المنَزّلة، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد أن تكون العادات التي أقرها هي الطرق الوحيدة الممكنة لتحقيق المقاصد. ويظهر ذلك بوضوح في بعض الأحاديث التي حسبها بعض الناس “متعارضة” ورجحوا بعضها على بعض، رغم أنها ليست متعارضة في نفس الأمر، وإنما هي نوع من إدارة الأحكام مع ما تعارف عليه الناس من عرف بهدف تحقيق المقاصد الشرعية. كالذي ورد في ترجيح جمهور الفقهاء حديث عائشة (الصحيح)، أنها قالت: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل‘ كررها ثلاثاً”، على حديث ابن عباس (الصحيح كذلك) الذي أخرجه مالك في الموطأ ومسلم من طريق مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ’الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأذن في نفسها وإذنها صماتها‘”، وذلك من باب ترجيح الحديث المشتمل على تأكيد.[65] ورجح الأحناف الحديث الثاني على الحديث الأول لوجود اختلاف في بعض رواة الحديث الأول.[66]

ولكن النظر إلى العرف العربي –كما رأى بعض الأحناف- يجمع بين هذين الحديثين الصحيحين باعتبار العرف الذي راعته الرواية الأولى، فقالوا إن ما ورد من نهي عن مباشرة البكر العقد ما هو إلا “لكيلا تنسب إلى الوقاحة”،[67] وهو أمر قد يختلف باختلاف العرف. ويؤيد ارتباط قضية الولي بالعرف المذكور فعل عائشة رضي الله تعالى عنها (ولاحظ أنها هي نفسها راوية الحديث الأول!)، فقد زوّجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب، “مما يدل على أن مذهبهما جواز النكاح بغير ولي”.[68] وصريح القرآن أصل في هذه المسألة على أي حال، فقد قال تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 234). إن المقصد من وراء الولي -حسب العرف- إنما هو حفظ حقوق المرأة والنصيحة لها، وهو مقصد قد يتحقق بطرق شتى حسب الأحوال والأعراف. فكيفما اقتضى العرف تحقيق ذلك وجب، سواء بالولي أو بالكتابة أو بالكفاءة أو بغيرها من الاعتبارات.

ومن الأحاديث التي رأى الفقهاء فيها تعارضاً[69] حديث عائشة “لعن الله الواصلة والمستوصلة”،[70] وحديث عائشة (أيضاً) “شعرها وغيره وصلته بصوف”،[71] وأشار شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور رحمه الله إلى اعتبار العرف في هذه المسألة تحت عنوان “عموم شريعة الإسلام”، فقال: “نحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها -بما هي عادات- أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع… ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإيجاب أو التحريم، يتضح لنا دفع حيرة وإشكال عظيم يعرضان للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال، مثل تحريم وصل الشعر للمرأة وتفليج الأسنان … إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزين المأذون في جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك، فيتعجب من النهي الغليظ عنه. ووجهه عندي … أن تلك الأحوال كانت في العرب أمارات على ضعف حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها”.[72] ويؤيد ذلك قول بعض الحنابلة إن الوصل في الجاهلية “كان شعار الفاجرات”،[73] وهو ما يعني أن المسألة ليس فيها تعارض، وإنما هو حكم ارتبط بعرف معين. وعلى هذا فالمقصد الذي دار معه ذلك الحكم هو تمييز المسلمات العفيفات عن غيرهن، وهو مقصد لابد أن يعتبر في كل عرف، وإن اختلف في صورته عن العرف الذي اعتبر في الحديث المذكور، وذلك بتجنّب كل ما يكون “شعاراً للفاجرات” من مظهر أو قول أو عمل.

وأذكر هاهنا فتوى ذكرها ابن عابدين رحمه الله، في رسالته العميقة المغزى عن علاقة العُرْف بالحكم الشرعي، التي سمَّاها “نشرُ العَرْف فيما بُنِي من الأحكام على العُرْف”. قال: “صرَّحوا بفساد البيع بشرطٍ لا يقتضيه العقد وفيه نفعٌ لأحد العاقدَين، واستدلُّوا على ذلك بنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع وشرط،[74] وبالقياس، واستثنوا من ذلك ما جرى به العرف كبيع نعل على أن يحذوها البائع… فإن قلتَ: إذا لم يُفسد الشرط المتعارف العقد، يلزم أن يكون العُرف قاضياً على الحديث؟ قلتُ: ليس بقاض عليه بل على القياس، لأن الحديث معلول بوقوع النِّزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة، والعرف ينفي النِّزاع فكان موافقاً لمعنى الحديث”.[75] فابن عابدين هنا بنى فتواه على مقصِد الحديث (وهو قطع المنازعة) لا على ظاهره (وهو النهي عن بيعٍ وشرط)، وأدار الحكم مع هذا المقصد وجوداً وعدماً، وهو ما جعله يقر العرف الجديد الذي يحقق المعنى المقصود.

أما كون العرف يتغير بتغير الزمان فهو وارد. يقول ابن بَرهان: “ليس كلُّ ما كان مصلحة في زمان يكون مصلحة في زمان آخر، ويجوز أن يكون الفعل مصلحةً في زمان ومفسدة في غيره، وليست الأزمنة متساوية”.[76]

 

اعتراض منطقي وردّه

ولكن، قد يُعترض على كلِّ ذلك بأن المقاصد الشرعية المستقراة ليست “قطعية”. و”القطع” مفهومٌ من المفاهيم الأساسية في التركيب المنطقي لأصول الفقه الإسلامي، فقد ادَّعى أرسطو قطعيَّة الاستنباط المنطقي من قديم، واحتج بقطعية ما يُستنبط عن طريق الآلات اللوجستية -التي نظّر لها تنظيراً محكماً- في مقابل ما يُستكشف عن طريق الاستقراء.[77] فقد رأى أرسطو أن الاستقراء إذا كان كاملاً فلا حاجة إليه، لأنه استوعب كلَّ الحالات المنطقية على أية حال، وإن كان ناقصاً فهو لا يفيد القطع، وبالتالي فقد شكَّكَ في سلامة استخدامه كآلة منطقية. ورغمَ معارضة أغلب الفقهاء للفلسفة والفلاسفة والمنطق والمناطقة، إلا أنَّ رأيَ أرسطو كان هو السائدَ بين الفقهاء، بنقل مباشر أو غير مباشر عنه.[78] وكان الاستثناء من هذه القاعدة قلةً من العلماء، كان على رأسهم ابنُ تيمية الذي عارض مسألة قطعية الاستنباط المنطقي، لأنه يستند في أساسه ومقدماته المنطقية على “كليَّات في الذهن”.[79]

ولأن الطريق الرئيس لاستكشاف المقاصد الشرعية هو الاستقراء، وبسبب فكرة “عدم قطعية الاستقراء”، افتقدت المقاصد مرتبة “اليقين” و”الحجية” قروناً، وهي المرتبة نفسها التي توافرت للعلل التي اعتمدت في أغلبها على الاستنباط أو ما يشبهه من الطرق الصورية. حتى إن أبا حامد الغزالي الذي أبدع في التنظير للمقاصد الشرعية في مستصفاه ردد بدوره “عدم قطعية الاستقراء”، ووصف المقاصد في أول حديثه الرائع عنها “بالمصالح الموهومة”،[80] والغزالي وإن قصد بذلك المصالح التي لا يشهد لجنسها دليل من الشرع، إلا أنني أعتقد أنه ليس هناك مصلحة لا يشهد لجنسها دليل من الشرع، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. ولذلك، عندما أراد أبو إسحاق الشاطبي الإفاضة في التنظير للمقاصد، ودفعِها لتتبوّأ مكانتها ضمن “أصول الشريعة” بدأ كتاب المقاصد من الموافقات[81] في مقدمته الأولى “المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب” بالتأكيد على “قطعية الأصول”، ثُم “قطعية الاستقراء”، ومن ثَم “قطعية المقاصد”.

والحقُّ أن نفيَ أرسطو للقطع المطلق عن الاستقراء دقيق، كما أن نقد ابن تيمية لمنطق الاستنباط دقيق كذلك، ولا قطعَ في الاستقراء ولا الاستنباط ولا أية نظرية بشرية متصوَّرة، علميةً كانت أم فلسفيةً أم شرعية! وإنما درجةُ القطع (أو سمِّها درجة الظن إن شئت) كلها نسبية، والإنسان يزداد يقيناً بأية قضية كانت، كلما توافرت الأدلة عليها. بل إن منطق القرآن نفسه في إثبات وجود الخالق عز وجل هو منطق استقرائي بالأساس، يعتمد على لفت النظر إلى تكاثر الأدلة على وجود البارئ المبدع سبحانه وتعالى، من مثل قوله تعالى: ﴿ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور﴾ (الملك: 3)، فلا يقال إن هذا الاستقراء ناقص لأننا ربما نجد فطوراً ما في ما لم نر من الكون، لأنه يكفي للبشر أن يقيسوا الغائب على الشاهد. فالتسليم إذن بنسبية القطع والحجية الكاملة للمقاصد المستقراة، أساس لتفعيل المقاصد في الاجتهاد والتجديد.

 

خاتمة

النصوص الشرعية ثابتة خالدة، ولكن القضايا والحوادث متجددة على مر الأيام. فلابد إذن من اجتهاد منضبط لاستنباط أحكام لتلك القضايا حتى لا يخرج عن مسار المقاصد الشرعية. ولابد أيضًا من تجديد النظر الفقهي والأصولي اللازم لضبط ذلك الاجتهاد.

وبعد أن عرض البحث لبعض الانتقادات التي أثارها العلماء المجتهدون المعاصرون حول مناهج أصول الفقه التقليدية، ومنها أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ النصوص وإعطائها أولوية أحياناً على المعاني والمرامي المقصودة. ثم تناول البحث بعض وسائل التجديد والاجتهاد المقاصدي من خلال قضية الدلالة، وطرح مفهوم “دلالة المقصد”، وضرب أمثلة على تطبيقه في بعض المسائل، على أساس أن المقاصد منهج وسط في الاستدلال ينطلق من ثوابت النصوص ويدور مع متغيرات الواقع. واقترح البحث منهجاً لحل التعارض بديلاً عن مسالك النسخ عن طريق الجمع بتحقيق المقاصد على اختلاف الظروف، وذلك عن طريق فهم المقاصد النبوية عن طريق ملاحظة المقاصد، وعن طريق اعتبار التنوع المقصود، واعتبار التدرج المقصود.

[1] الشاطبي، إبراهيم بن موسى. الموافقات. تحقيق: عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ، ج1، ص5.

[2] ابن عاشور، محمد الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية. تحقيق ودراسة: محمد الميساوي، ماليزيا، كوالالامبور: دار الفجر، الأردن، عَمّان: دار النفائس، الطبعة الأولى، 1999م، ص118.

[3] ابن عاشور، محمد الطاهر. أليس الصبح بقريب؟ تونس: الشركة التونسية لفنون الرسم، 1988م، ص204.

[4] راجع هذا النقد وأمثاله في: الصغير، عبد المجيد. الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة. لبنان: دار المنتخب العربي، 1994م، ص 468-471.

[5] انظر مثلاً: الرازي، محمد بن عمر بن الحسين. المحصول. تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض: جامعة الإمام محمد، الطبعة الأولى، 1400ھ، ج5، ص226، و الغزالي، محمد بن محمد أبو حامد. المستصفى. تحقيق:  محمد  عبد  السلام  عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1413ھ، ج1، ص172، و الآمدي، علي بن محمد أبو الحسن. الأحكام. تحقيق: سيد الجميلي، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1404ھ، ج5، ص391.

[6] انظر مثلاً: الزرقاني، محمد بن عبد الباقي بن يوسف. شرح الزرقاني على الموطأ. بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411ھ، ج1، ص459، وج2، ص400، وج3، ص56، وج4، ص238، وابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي. المغني. بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1405ھ. ج1، ص68، وابن القيم، شمس الدين. إعلام الموقعين. بيروت: دار الفكر، ب.ت، ج3، ص147.

[7]  انظر مثلاً: ابن العربي، أبو بكر محمد المالكي. المحصول. تحقيق: حسين علي البدري وسعيد فودة، عمان: دار البيارق، 1420ھ، وابن بدران، عبد القادر الدمشقي. المدخل. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1401ھ، ج1، ص160، والسرخسي، محمد بن أحمد. أصول السرخسي. بيروت: دار المعرفة، د.ت.ج2، ص248، والشوكاني، محمد بن على بن محمد. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. تحقيق: محمد سعيد البدري، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1412ھ، ج1، ص137.

[8] انظر مثلاً: الشافعي، محمد بن إدريس أبو عبد الله. الرسالة. تحقيق: أحمد شاكر، القاهرة: دار الفكر، 1358ھ، ص62، وابن القيم. إعلام الموقعين. مرجع سابق. ج3، ص197.

[9] مثل تشوف الشارع للحرية، والعتق، وعدم الطلاق، ولحوق النسب، وغيرها من المعاني. انظر مثلاً: السيواسي. شرح فتح القدير. مرجع سابق. ج4، ص513.

[10] انظر مثلاً: الغزالي. المستصفى. مرجع سابق. ج1، ص172.

[11] الجويني، البرهان، ج 2، ص590.

[12] الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج2، ص61 وما بعدها.

[13] القرضاوي، يوسف، “بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، دراسة في فقه مقاصد الشريعة”، مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا. لندن: مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، 2006م.

[14] الترابي. قضايا التجديد. مرجع سابق. ص166-167.

[15] جابر، حسن. المقاصد الكلية للشرع والاجتهاد المعاصر. بيروت: دار الحوار، 2001م، الباب الأول.

[16] العلواني. مقاصد الشريعة. مرجع سابق. ص124-125.

[17] العوا، محمد سليم (وآخرون). السنة التشريعية وغير التشريعية. القاهرة: دار نهضة مصر، 2001م، ص 71.

[18] راجع تلخيصاً جيداً للشيخ علي حسب الله في: حسب الله، علي. أصول التشريع الإسلامي. القاهرة: دار المعارف، 1964م.

[19] ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. مرجع سابق. ص118.

[20] بالإنجليزية: historicism ويطلقون عليها أحياناً بالعربية لفظ “التاريخانية”، وهو لفظ غير دقيق لغوياً.

[21] Winquist and Taylor, Encyclopedia of Postmodernism, p.178. أما “ما بعد الحداثة” (postmodernism)  فهي مدرسة فلسفية معاصرة اختلفت الآراء في تعريفها بين “اللاعقلانية” و”فسيفساء الأضداد” و”المدرسية الشكية الجديدة”.

[22] التفكيك  (deconstruction)هو مصطلح استحدثه جاك دريدا (وهو فيلسوف فرنسي يهودي “ما بعد حداثي”، من أصل جزائري) في الستينيات من القرن العشرين للتخلص -حسب رأيه- من كل تمحور أو تمركز حول أي سلطة كانت سواء كانت لنص، أو لدين، أو لجنس، أو لأشخاص. راجع: Taylor, V. and Winquist, C., ed. Encyclopedia of Postmodernism. New York: Routledge, 2001

[23] Abu Zaid, Nasr Hamed “Divine Attributes in the Qur’an,” in Islam and Modernity: Muslim Intellectuals Respond, ed. John Cooper, Ronald L. Nettler and Mohamed Mahmoud (London: I.B.Tauris, 1998).

[24] Ebrahim Moosa, “The Poetics and Politics of Law after Empire: Reading Women’s Rights in the Contestations of Law,” UCLA Journal of Islamic and Near Eastern Law, no. 1 (fall/winter) (2002).

[25] حنفي، حسن، التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الخامسة، 2002م، ص108.

[26] البخاري، محمد بن إسماعيل الجعفي. صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى البغا، بيروت: دار ابن كثير واليمامة، الطبعة الثالثة 1407ھ، باب صلاة الطالب والمطلوب، ج1، ص321.

[27] مسلم، ابن الحجاج أبو الحسين النيسابوري. صحيح مسلم. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث، د.ت. باب المبادرة بالغزو، ج3، ص1391.

[28] ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري. التمهيد. تحقيق: محمد بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري، المغرب: وزارة عموم الأوقاف، 1387ھ، ج4، ص216.

[29] القرضاوي، يوسف. فقه الزكاة: دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة. القاهرة: مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة عشر، 1985م، ج1، ص146 وص229.

[30] ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد الظاهري أبو محمد. المحلى بالآثار. تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، بيروت: دار الآفاق الجديدة، د.ت. ج5، ص209-211.

[31] البخاري. صحيح البخاري. مرجع سابق. باب ليس على المسلم في فرسه صدقة ج 2، ص532.

[32] ابن رشد، محمد بن أحمد القرطبي أبو الوليد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. بيروت: دار الفكر د.ت.، ج1، ص290-291.

[33] القرافي. أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي. الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق. تحقيق: خليل المنصور، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418ھ-1998م، ج1، ص357.

[34] السيواسي، كمال الدين بن عبد الواحد. شرح فتح القدير. بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، د.ت.، ج2، ص260.

[35] المرجع السابق.

[36] الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج4، ص261.

[37] الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج 4، ص128، والغزالي. المستصفى. مرجع سابق. ج 1، ص279. الغزالي، محمد بن محمد أبو حامد. محك النظر. مصر: المطبعة الأدبية، د.ت. ص27، والسوسرة. منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث وأثره في الفقه الإسلامي. مرجع سابق. ص59.

[38] الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج 4، ص129. ابن تيمية. كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه. مرجع سابق. ج 19، ص131. زيد، مصطفى. النسخ في القرآن الكريم. القاهرة: دار الفكر العربي، 1383ھ، ج 1، ص169. السيوطي. تدريب الراوي. مرجع سابق. ج 2، ص192.

[39] السرخسي. أصول السرخسي. مرجع سابق. ج 2، ص12.

[40] السبكي و ابنه، علي بن عبد الكافي و تاج الدين. الإبهاج شرح المنهاج. بيروت: دار الكتب العلمية، 1404ھ، ج 3، ص218.

[41] بدران، أبو العينين. أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها. الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1974م، ص69 و131.

[42]  عودة، جاسر. فقه المقاصد: إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها. واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006م، الفصل الثاني، ص 73-119.

[43] زيد. النسخ في القرآن الكريم. مرجع سابق. ج 1، ص169. وراجع أمثلة التعارض المختلفة في: ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري. تأويل مختلف الحديث. تحقيق: محمد زهري النجار، بيروت: دار الجيل، 1393ھ، والشافعي، محمد بن إدريس. اختلاف الحديث. تحقيق: عامر أحمد حيدر، بيروت: مؤسسة الكتب، الطبعة الأولى، 1405ھ – من أول هذين الكتابين إلى آخرهما.

[44] بدران. أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها. مرجع سابق. ص118. حماد. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين. مرجع سابق. ص127. كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، عبد العزيز البخاري ج 3، ص78. حماد. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين. مرجع سابق. ص127.

[45] مسلم. صحيح مسلم. مرجع سابق. باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه إلى متى شاء ج 3، ص1561.

[46] الطحاوي، أحمد بن محمد أبو جعفر. شرح معاني الآثار. تحقيق: محمد زهري النجار، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1399ھ، ج 4، ص188. والدافة هي الجماعة، وتعني بها قوم مساكين قدموا المدينة.

[47] ابن حبان، محمد التميمي البستي. صحيح ابن حبان. تحقيق: شعيب الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1414ھ، باب ذكر العلة التي من أجلها زجر عن الشرب في الحناتم ج 12، ص221.

[48] مالك. الموطأ. مرجع سابق. باب ادخار لحوم الأضاحي ج2، ص485، وأبو يعلى. مسند أبي يعلى. مرجع سابق. ج6، ص373.

[49] الزرقاني. شرح الزرقاني على الموطأ. مرجع سابق. كتاب الضحايا ج 3، ص101.

[50] ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. مرجع سابق. ص183 وما بعدها.

[51] السيواسي. شرح فتح القدير. مرجع سابق. ج 1، ص311.

[52] الشافعي. الرسالة. مرجع سابق. ج 1، ص272-275.

[53] انظر الروايات والآراء المختلفة في: خياط. مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين الفقهاء، مرجع سابق. ص282-287.

[54] السوسرة. منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث وأثره في الفقه الإسلامي. مرجع سابق. ص260.

[55] الغزالي. المستصفى. مرجع سابق. ج 1، ص172-174.

[56] الصنعاني، محمد بن إسماعيل الأمير. سبل السلام. تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الرابعة، 1379ھ، ج3، ص227.

[57] بين ما رواه الحاكم، محمد بن عبد الله النيسابوري. المستدرك على الصحيحين. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411ھ، ج 4، ص232، في كتاب الضحايا وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وما رواه مسلم في باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا ج 3:، ص1565.

[58] ابن عابدين. حاشية ابن عابدين. مرجع سابق. ج 6، ص320.

[59] ورد أيضاً في: الحاكم. المستدرك على الصحيحين. مرجع سابق. ج 1، ص 70، ورجاله ثقات.

[60] نقلاً عن: عيسى. إجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم. مرجع سابق. ص122.

[61] أبو داود. سنن أبي داود. مرجع سابق. باب ما جاء في خبر الطائف ج 3، ص163، وهو حسن رجاله ثقات.

[62] الغزالي. نظرات في القرآن. مرجع سابق. ص194.

[63] ابن عابدين، محمد أمين بن عمر. نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف. مرجع سابق. ج 2، ص112.

[64]  راجع سلطان. “حجية الأدلة الاجتهادية المختلف عليها في الشريعة الإسلامية”. مرجع سابق. ص615-629، وفيها فصل حُققت فيه التعريفات المختلفة وآراء الأصوليين حتى أُثبتت هذه النتيجة.

[65] خياط. مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين الفقهاء، مرجع سابق. ص271-273.

[66] المرجع السابق، ص276.

[67] انظر: ابن نجيم، زين الدين الحنفي. البحر الرائق. بيروت: دار المعرفة، الطبعة الثانية، د.ت. ج3، ص117، والمرغياني، أبا الحسن علي بن أبي بكر الرشداني. الهداية شرح البداية. المكتبة الإسلامية، د.ت. ج 1، ص196، وابن عابدين، محمد أمين بن عمر. حاشية ابن عابدين. بيروت: دار الفكر للطباعة، 1421ھ، ج3، ص55، والسيواسي. شرح فتح القدير. مرجع سابق. ج 3، ص258.

[68] الجصاص. أحكام القرآن. مرجع سابق. ج 2، ص101.

[69] خياط. مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين الفقهاء، مرجع سابق. ص424-425.

[70] البخاري. صحيح البخاري. مرجع سابق. باب الوصل في الشعر ج 5، ص2217.

[71] أبو المحاسن، يوسف بن موسى الحنفي. معتصر المختصر. عالم الكتب، القاهرة: مكتبة بيروت، د.ت. ج 2، ص388.

[72] ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. مرجع سابق. ص236.

[73] البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس. كشاف القناع. تحقيق: هلال مصيلحي، بيروت: دار الفكر، 1402ھ، ج 1، ص81.

[74] الحديث مروي عن أبي حنيفة، قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، الطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم. المعجم الأوسط. تحقيق: طارق بن عوض الله محمد وعبد المحسن الحسيني، القاهرة: دار الحرمين، 1415ھ، باب من اسمه عبد الله ج4، ص335، وكذلك ذكره ابن حجر. فتح الباري. مرجع سابق. ج4، ص403، والنووي، محيي الدين يحيى بن شرف.  شرح النووي على صحيح مسلم. بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1392ھ. ج11، ص30.

[75] ابن عابدين، محمد أمين بن عمر. نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف. مجموعة رسائل ابن عابدين: العلم الظاهر في نفع النسب الطاهر، القاهرة: د.ت.، ج 2، ص119.

[76] ابن برهان، الوصول إلى الأصول، ج1، ص148، .175

[77] Aristotle, The Works of Aristotle, vol. 1, Great Books of the Western World (London: Encyclopaedia Britannica INC., 1990).

[78] مثلاً: الرازي، محمد بن عمر بن الحسين. مفاتيح الغيب الشهير بالتفسير الكبير. بيروت: دار إحياء التراث، د.ت. ج 30، ص133، والسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين. تدريب الراوي. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، المدينة: المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، 1392ھ، ج 1، ص277، وابن الهمام، محمد بن عبد الواحد. التقرير والتحبير. بيروت: دار الفكر. ج1، ص86.

[79] ابن تيمية، أحمد عبد الحليم الحراني أبو العباس. درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. تحقيق: محمد رشاد سالم، القاهرة: مكتبة ابن تيمية، 1971م، ج 3، ص216.

[80] الغزالي. المستصفى. مرجع سابق. ج 1، ص173.

[81] الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج 1، ص29.