السلوك الإجرامي لنظم الاستبداد وضعنا جميعاً في حيرة من أمرنا في محاولة الإجابة على هذا السؤال: هل نقابل العنف بالعنف؟ هل مقابلة جرائم نظم الاستبداد في الاعتداء على النفوس والأعراض بالعنف والردع باسم الجهاد المشروع مقابلة مشروعة؟ وماذا لو كانت نتيجة ومحصلة اللجوء للعنف ما نراه من لجوء نظم الاستبداد لمستويات أعلى من العنف المضاد الهمجي والشامل ليس فقط ضد الثوار بل ضد الجميع خاصة المدنيين العزل؟ما نراه من مأساة مفجعة في وحشية نظم الاستبداد في كل بلاد (الربيع العربي) خاصة في سوريا قد تجاوز كل الخطوط الحمراء إنسانياً حتى وصلنا إلى مستوى الكابوس المفزع و تحت سمع وبصر السياسة الدولية اللا إنسانية، سياسة لا تبالي إلا بمزيد من المال الداخل لمنظوماتها الاقتصادية بهدف تحقيق مزيد من السلطان للواحد في المئة الذين يحكمون اقتصاد العالم، ولا مانع من بعض الفتات من هذا المال لمحترفي السياسة في الغرب والشرق، وفتات أقل للشعوب الغربية المترفة، ثم لا شيء للشعوب التي تعيش تحت الاستبداد. هل لهذه المآلات المفزعة أثر في إجابة سؤالنا حول مشروعية خيار العنف وإعلان الجهاد على نظم الاستبداد؟
 
وقد رأينا منذ ثورات ٢٠١١م عدداً من النماذج في ردود الأفعال على (بلطجة) و(تشبيح) و(حشود) نظم الاستبداد: رأينا الأنموذج البراغماتي المناور، والذي يفزع من احتمال العنف ويقدر ميزان القوى لغير صالحه فيشرع في التنازل عن جل مكتسبات الثورة نفسها ويتخلى عن كل ما هنالك من حقوقه السياسية التي وصل إليها ديمقراطياً في سبيل سلامة الأفراد وحقن الدماء.
ورأينا الأنموذج الغارق في المثالية، والذي يصر على السلمية متوهماً أنه على طريق غاندي في انتصار ثورة الهند، غير أنه نموذج يفتقد لأبسط مقومات النجاح على طريقة غاندي لأنه لا يملك مقومات الزعامة الروحية التي تفرض سلطة معنوية قوية على الجماهير ولا يملك حتى التحكم في أفعال الثوار خاصة قطاع الشباب الغاضب الذي يمارس بعض مظاهر العنف بشكل عشوائي، فينتهي الأمر بالاستبداد الماكر أن يتهم هذا النموذج الغاندي نفسه بالعنف والإرهاب وينتهي الحال برموزه بين قبر وسجن ولجوء واختباء.
 
ثم رأينا النموذج الذي لا يتحمل عنف السلطة النظامية واستعدادها لسفك الدماء، فيقرر (عسكرة الثورة) ويلجأ إلى الصراع المسلح في شكل حروب العصابات، والتي يغذيها ببعض الانشقاقات في الجيش النظامي أو بتكوين جيوش أهلية غير محترفة أو بعمليات فردية عشوائية أو بتوليفة غير منسقة من هذه الأشكال مجتمعة، ورأينا كيف أدى هذا الخيار الإنفعالي إلى معارك مفتوحة السقف مع قوى الاستبداد، معارك أدت لمآسي كبيرة وإلى كفر واسع ليس فقط بمبدأ الجهاد المشروع بل بمبدأ الثورة نفسها وبفكرة التغيير أصلاً.
 
والحق أن الإجابة على سؤال (هل نواجه العنف بالعنف؟) مهمة صعبة ومعقدة، ولا أرى لنا بُداً – أيها القارئ الكريم – من بعض التحليل والتركيب لتقديم إجابة ذات وجوه متعددة وشروط مختلفة حسب الظروف المختلفة. لا يصلح في هذا المقام التبسيط والبحث عن جملة واحدة قصيرة على طريقة تويتر. مائة وخمسون حرفاً لا تكفي للإجابة على هذا السؤال!
وأول ملامح الإجابة على سؤال العنف هو أنها ليست إجابة واحدة بل إجابات تتراوح بين أقصى درجات (نعم) لأقصى درجات (لا) حسب الواقع، ذلك لأن كل مكان له ظروفه وله حساباته وما يصلح فيه قد لا يصلح في كل الأمكنة. ولكن القاسم المشترك بين كل الأمكنة هو أن يكون خيار الجهاد المسلح خيار استراتيجي مدروس ومقدر بقدره وليس رد فعل عفوي أو عشوائي. ردود الفعل العشوائية العنيفة الغير مدروسة تضر أكثر من ما تنفع وبالتالي فهي ليست مشروعة شرعاً ولا عقلاً. ومعنى استراتيجية الخيار الجهادي هو في الإجابة على عدد من الأسئلة الاستكشافية لتعقيد الواقع الذي فيه سياق السؤال وفهم ملابساته بأكبر درجة متاحة من الدقة. هذه الأسئلة التي تحلل الواقع وتبين تفاصيل الإجابة يمكن أن نوجزها في ما يلي، والله المستعان:
الأصل أن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل نصرة المستضعفين ورفع الظلم عن المظلومين فريضة إسلامية قرآنية أصيلة وثابتة وباقية ولم ولن ينسخها شيء. (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين – سورة النساء). والأصل أيضاً أن هناك في الإسلام معنى للجهاد يعبر عن جهاد للنفس بمعنى تزكيتها وتدريبها على معالي الأمور، ولكنه ليس هو المعنى الوحيد. فهناك في الإسلام أيضاً معنى للجهاد يعبر عنه بالسلاح والعنف. وهذا الجهاد ليس بالضرورة في معركة بين الكفر والإيمان، بل يمكن أن يكون ضد الطائفة الباغية ولو كانت من المسلمين. (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء – راجع سورة الحجرات). والسؤال هنا إذن ليس عن مشروعية الجهاد، ولكن متى يكون الجهاد مشروعاً مطلوباً ومتى يكون إرهاباً مذموماً؟ وما هي الضوابط التي تحكم هذا الجهاد المشروع؟ لابد من المشروعية ومن الضوابط.
 
وأول ضوابط الجهاد المشروع هو سلامة النية حتى يكون الجهاد (في سبيل الله)، وبدون هذه النية لا يصح الجهاد شرعاً ولا يؤدي إلا للفساد الدنيوي والأخروي. لا يصح للمجاهد إلا أن يكون عابداً قائماً لليل خائفاً من لقاء الله ولا يصح مطلقاً أن يكون من وراء جهاده نعرة قومية أو قبلية ولا حمية حزبية أو مذهبية ولا طلباً لمصلحة مادية من متاع الدنيا ولا أن يكون تواقاً للسلطة على عباد الله والتحكم فيهم، ولا حتى انتقاماً من فلان أو ثأراً من العدوان على فلانة، ولا أن يكون من وراء جهاده اكتئاباً أو إحباطاً أو شبقاً يحاول التخلص منه بالانتحار جهاداً! هذا ليس هو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا. الصحابة رضي الله عنهم عذبوا وذبحوا في مكة ولكن الجهاد لم يكن هو الخيار الاستراتيجي وقتئذ حتى جاء وقته وظهر رجاله وصحت النية لله والزهد في الدنيا واصطفت الجبهات بوضوح. المجاهدون قبل أن يجاهدوا لابد لهم من صياغة متدرجة وأحداث فارقة وتربية عالية حتى لا يختلط الحابل بالنابل ويتحولوا من (مجاهدين) إلى مرتزقة غاصبين وقتلة سارقين وشياطين بلا رحمة ولا خلق – كما نرى في واقعنا المؤسف.
 
الأصل في الشرع أن وسائل العنف وسلطة الزجر والردع لا تمتلكها ولا تستخدمها إلا مؤسسات السلطة الشرعية، أي سلطة الدولة في واقعنا في الدولة الوطنية المعاصرة. والمعنى الإسلامي هنا هو أن الأصل أن سلطة الدولة هي المخولة بفريضة (الجهاد) في عصرنا وتنظيم وسائل العنف وتطبيق العقوبات على الأرض، والأصل أنه لا يصح شرعاً ولا قانوناً أن يفتئت الآحاد ولا المجموعات على سلطة مؤسسات الدولة. إلا أن أصل هذا الكلام ليس على إطلاقه لأن للمرء أن يتساءل هنا: ماذا لو كانت شرعية هذه الدولة نفسها محل استفهام؟ ماذا لو كانت رؤوس تلك (الدولة) هي مجرد عصابة من الإرهابيين؟ هل تصح محاربتها؟ ورغم أن الإجابة هي نعم إلا أن “كيف” هي مسألة على أكبر درجة من الأهمية، لأن “كيف” ترتبط بعدد من خيارات الجهاد السلمي (أو الجهاد المدني كما سماه بعض الفضلاء)، والتي لابد أن تستنفذ أولاً حسب الواقع المحيط بالسؤال. هذا الجهاد السلمي والحراك الشعبي لابد أن يستنفذ المجال التشريعي والتنفيذي والقضائي قبل أن يدخل في درجات أخشن من المواجهات الاقتصادية أو العسكرية.
 
الأصل أن السلطة التشريعية تشرّع القوانين لتحقيق العدل وحفظ الحقوق ومراعاة الحرمات، ولا يصح أن يتولى الأفراد خارج السلطة التشريعية سن تشريعات خارج القانون. ولكن السؤال هنا هو: ماذا لو فسدت السلطة التشريعية فأصبح القانون مجرد أداة تشرعن للظلم والفساد وكبت الحريات وتقييد الصحافة وتجريم معارضة الاستبداد، أي باختصار تشرعن السلطة التشريعية لإرهاب المستبدين بالسلطة باسم القانون ولا تشرع لتحقيق العدل ولا تسن القوانين لحفظ الحقوق ولا مراعاة الحرمات؟ ألا يحق للناس رفض القوانين الجائرة وسن قوانين (أهلية) بديلة تطبق في حالة الجهاد؟ والإجابة هي بلى بالطبع، ولكن الأمر يتطلب استنفاذ الفرص في إصلاح الهيئات التشريعية ومقاومة تحولها تماماً إلى دمية للاستبداد.
ولكن إذا فسدت هذه الهيئات التشريعية تماماً فلابد من حض الناس على تجاوز النظام التشريعي والرفض لقوانينه على مستوى السلطة التنفيذية. ولكن ماذا لو فسدت السلطة التنفيذية التي تقوم على تنفيذ القانون فأصبحت تستخدم وسائل العنف التي تحتكرها والتي يدفع ثمنها المواطنون جميعاًً من المال العام أو (مال الأمة) أو (مال الله) بالتعبير الشرعي، تستخدمها السلطة التنفيذية في قمع المطالبين بالكرامة وأصحاب الحقوق والمعارضين السياسيين حتى ولو كانوا يتحركون داخل إطار القانون الصالح نفسه وفي حدود الحقوق التي يكفلها، بدلاً من ردع المجرمين وزجر المعتدين وحفظ النظام العام؟ ماذا لو كانت السلطة التنفيذية هي التي ترتكب الجرائم وتكسر القانون على طريقة (حاميها حراميها) كما يقول الناس؟ هل يصح محاربتها؟
ورغم أن الإجابة هي نعم بالطبع، إلا أنه قبل هذه الحرب لابد من استنفاذ اللجوء للهيئات القضائية بمستوياتها المختلفة، ولابد من إعطاء الفرصة لتحديد الأهداف بدقة في استهداف السلطة التنفيذية، حتى يكون إعلان العصيان على السلطة التنفيذية بقدره الضروري لإعادة تركيبه وليس هدماً للمجتمع وتقويضاً لأركانه. الهيئات القضائية مهمة لأنها هي صمام وجود المجتمع، والعدل أساس الملك.
 
ويتبع ذلك السؤال التالي: ماذا لو فسدت السلطة القضائية وضيعت العدل بين الناس؟ ماذا لو بررت الجرائم التي يرتكبها أصحاب السلطة التنفيذية والفساد الذي تشرعنه السلطة التشريعية؟ ماذا لو برأ القضاء المجرم وجرم البرييء؟ وحبس المعتدى عليه المسكين وأطلق المعتدي الأثيم؟ ماذا لو صارت منصة القضاء الشريفة مسرحية للتغطية على جرائم ترتكب ضد الإنسانية من أجل عيون الاستبداد في صوره السياسي والديني والاقتصادي؟ وصار القاضي الهمام مجرد إرهابي متنكر في صورة حَكَم لصالح الاستبداد والمستبدين؟ ألا يبطل هذا الفساد شرعية المحاكم ويملي إزالة الظلم بالعنف؟ وماذا لو تجاوز الأمر فساد قاض أو قاضيان يمكن تنحيتهما إلى فساد (النظام) كله؟ ألا تصح محاربته شرعاً وعقلاً؟
ورغم أن الإجابة هنا أيضاً هي بلى، إلا أن الولوج إلى خيار الجهاد المسلح يحتاج إلى استيعاب عدد من الدروس القرآنية المهمة، والتي يمكن إيجاز بعضها في رؤوس أقلام مختصرة كالتالي – حتى تسنح فرصة ببعض التفصيل لاحقاً بمشيئة الله تعالى:
أولاً، لابد من تمايز المعسكرين ووضوح الفريقين للجميع، ولا يصح أن يكون جهاد في سبيل الله دون هذا الوضوح. (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا). (من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار الله). (فلما تراءت الفئتان). (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان). وإعلان الجهاد خطأ كبير إذا لم يتمايز معسكران واضحان للحق والباطل على مستوى الشعوب الواسع، وذلك دون دعاوى فارغة ولا (فساطيط) متوهمة، وإلا كان قتالاً باطلاً وكان ضرره أكبر من نفعه، وهذا ما نراه للأسف في واقعنا: مجاهدون ليس لهم شعوب تحميهم ولا تؤيدهم ولا حتى تفهمهم. أي جهاد هذا؟- لابد من حساب القوة على الأرض حساباً دقيقاً. (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين). (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله).
والقوة على الأرض يدخل فيها القوى الدولية وأصحاب المصالح الذين يتحكمون في موارد العالم. نحن كمسلمين من الأطلسي إلى بحر الصين لا نملك سلاحاً حقيقياً إلا فتات ما يسقط من أصحاب السلاح مما نشتريه بأغلى الأموال. لا يصح الجهاد بشكل شامل وضد جيوش نظامية وتحالفات دولية عملاقة دون سلاح معتبر ورادع مناسب ودون روافد للقوة الاقتصادية والمعلوماتية والإعلامية وغيرها. لا يمكن أن ندعي الجهاد ببعض السيارات المسروقة والحسابات الموهومة على شركات اتصال لا نملك فيها مفتاحاً ولا خطاً وبأسلحة نصنعها في المطبخ مستخدمين أنابيب الغاز القديمة، إلى آخره. هذا النوع من (الجهاد) أقرب للمزاح منه للجد، ولا يؤدي إلى إلا كوارث في عالم نزعت من قلوب أصحاب القرار السياسي فيه الرحمة. لابد من الاستخدام الاستراتيجي جداً للموارد القليلة جداً وتعظيم النتائج بأقل التكلفة المادية والبشرية.
ولابد من التركيز على رؤوس الفساد وأئمة الكفر. (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم). ولا مفر من استهداف المصالح الاقتصادية للمستبدين بالأساس، وبشكل واع، والتركيز على رموز الفساد والقتل والعدوان التي لا خلاف عليها بين الناس. ولابد من شق صف الاستبداد والتحالفات الفرعونية من الداخل. (وقال رجل مؤمن من آل فرعون). (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون). (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين). وبدون شق صف (النخبة) فليس هناك جهاد مؤثر بل هو انتحار ساذج.
لابد من عدم التورط في قتل الأبرياء ولو كانت نفساً واحدة. (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). ليس هناك عذر في قتل بريء واحد باسم جهاد مزعوم. وحين رأى صلى الله عليه وسلم قتيلة بريئة غضب كما لم يغضب من قبل وقال: (ما كانت هذه لتقاتل).
 
والخلاصة في ما يسمح به هذا المقام  هو أن الجهاد مشروع وباق ولكن لابد من الوعي بالواقع وبالشروط التي يتطلبها هذا الخيار في واقع المجاهدين وفي سياق الأحداث، ولابد من التجرد التام والعمل الدؤوب على الإصلاح من أسفل لأعلى. ليس هناك حل عنيف أو غير عنيف دون استراتيجية ووعي وحكمة.