يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:

“لا تَسْتَغْرِبْ وُقوعَ الأَكْدارِ ما دُمْتَ في هذهِ الدّارِ. فإنَّها ما أَبْرَزَتْ إلّا ما هُوَ مُسْتَحِقُّ وَصْفِها وَواجِبُ نَعْتِها.”

ثم إن العبد إذا تاب وأناب وتوكل وأخلص وتفكر واغتنم الوقت، بدأ نور الإيمان يتوهج في قلبه وبدأ في رحلة القرب من المولى عز وجل، لأنه كما يقول الشيخ رحمه الله ورضى عنه في موضع آخر: (لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك).

ولكن العبد قادر على الرحلة وعلى الوصل إذا غيّر نفسه، وعندها: (ما زال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشي بها)، و(إذا تقرب عبدي إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلىّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

ولكن سنّة الله عز وجل في كونه تقتضي لمن يحبه الله ويقرّبه أن يبتليه! ليس هناك مفر من هذا! {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، ومثل ذلك في كتاب الله تعالى كثير.

والدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، وإنه إذا أخذها أو أخذ بعضها من عبده وأعطاه التوبة والقرب والجنة والآخرة، فما أربحها من تجارة وما أجزله من عوض! ولهذا فإن (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي المرء على قدر دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولذلك فإذا تكدْرت الحياة بالقليل من التحديات أو العقبات، فلا ينبغي للعبد أن يستغرب أو يقول أنّى هذا؟! والشيخ هنا كأنه يسألنا: ما اسم هذه الدار؟ والجواب: اسمها (الدنيا). إذن، فإذا أبرزت الأحوال الدنيا والأخلاق الدنيا والطبائع الدنيا والعواقب الدنيا، فلا ينبغي للمرء أن يجزع أو يستغرب، فهذه (الدنايا) كلها مشتقة من اسم الدنيا نفسه!

وهذا التسليم بطبيعة هذه الحياة التى لا تخلو من أكدار يعين العبد على فضيلة أساسية ومحطة رئيسية في رحلته إلى الله تعالى، ألا وهي الصبر على البلاء.

والصبر من أخلاق المسلم التى تجلب له (معية) الله تعالى: {إن الله مع الصابرين}. وهذه الكلمة الجامعة (مع) تعني الكثير، كما مر بنا في حكمة سابقة، ومن كان الله معه فمن عليه!

والصبر – كما هو معلوم- ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء.

أما الصبر على الطاعة فهو أن يلزم المسلم نفسه بالاستمرار في طاعة الله عز وجل حتى ولو شقّت، هذا طبعاً دون أن يضرّ نفسه أو يعذبها، فإن الله عز وجل يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وإن النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل الذي نذر أن يحج ماشياً قال: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه). ولكن الصبر المطلوب على الطاعة هو كمثل حديث النبى صلى الله عليه وسلم عن (إسباغ الوضوء على المكاره)، الذي (يرفع الله به الدرجات ويحط به الخطايا). فإذا وقع العبد في عبادته شئ من هذه الأكدار الخفيفة فلا يستغرب وليستبشر بفضل الله السابغ ورحمته العامة.

وأما الصبر عن المعصية فهو أن يُلزم المسلم نفسه بالبعد والامتناع عن الوقوع في ما حرم الله تعالى. {وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقال هيت لك، قال معاذ الله}. وهذا الصبر أيضاً له ثوابه، ففي مِثل هذه القصة (قصة سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) يقول صلى الله عليه وسلم عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله).

وأما الصبر على البلاء فهو على أنواع، كما فصّل في ذلك أهل هذا العلم، وهى أنواع من (الحبس) والمنع حين يواجه الإنسان البلاء، ألا وهي: حبس الجوارح عن المعصية، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس النفس عن التسخط بالمقدور.

أما حبس الجوارح عن المعصية فهو شرط لكى يحصل التطهير والتزكية بالبلاء، فالله عز وجل يقول عن المنافقين: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}، فإذا واجهت الأزمات فأنت في مفترق طرق: إما أن تتوب وتدعو وتتضرع، وبذلك تنجح في الامتحان، وإما أن تطغى وتذنب، وبذلك تفشل وترسب في الامتحان.

والصبر على البلاء يتطلب أيضاً حبس اللسان عن الشكوى وهذا هو (الصبر الجميل) الذي حكى الله عز وجل عنه في قصة يعقوب صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، ولذلك فيعقوب بعد أن قال {فصبر جميل}، قال: {إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله}، أي أنني أشتكي فقط لله سبحانه وتعالى وليس لأحد من خلقه.

وأما حبس النفس عن التسخط بالمقدور فهو أعلى أنواع الصبر، وفيه لا يشتكي العبد باللسان ولا يجزع بالجنان، وإنما تبقى النفس مطمئنة وهادئة ورابطة الجأش ولو في أوج الأزمة. (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، كما قال صلى الله عليه وسلم.

وإن العبد إذا صبر على البلاء وتخلّق بهذه الأخلاق، قطع شوطاً بعيداً ونجح وفاز. {والعصر إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.