يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه: “سَوَابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدارِ”

بدأت الرحلة في السلوك إلى الله بحكمة ترشدنا إلى الرجاء فيه سبحانه وتعالى، وإلى عدم تأثر هذا الرجاء ولو بالخطأ الذي يرتكبه الإنسان، لأنه لا خطأ يعظم على رحمة الله سبحانه وتعالى إذا صحت التوبة.

ولكن أحياناً حين يبدأ الإنسان بداية جديدة تأخذه الهمة ويأخذه الحماس، ويحاول أن يغير نفسه وأسرته والمجتمع والعالم والكون في ليلة! أو يحاول ويجتهد أن يحصّل نوراً أو علماً أو فكراً أو خيراً أياً كان دون مراعاة لما أطلق عليه الشيخ رحمه الله هنا (أسوار الأقدار).

يقول الشيخ رحمه الله ورضى عنه: (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار). ما معنى هذا الكلام؟

الهمم: جمع همة، والهمة هي النشاط والنية في العمل والحركة، هذه الهمة حتى لو كانت سابقة، حتى لو كانت من سوابق ومعالي الهمم، فهى لا تخرق قدر الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.

فهناك أقدار لله سبحانه وتعالى لن نستطيع أن نخرقها ولو ارتفعت الهمم. وهذه الأقدار هي سنن الله في كونه الذي خلقه متسقاً معها، وقال: {لن تجد لسنة الله تبديلاً}، وقال: {ولن تجد لسنة الله تحويلاً}.

فمن سنن الله تعالى: أنه خلق الحياة بنظام معين وخلق لها ظروف معينة تترتب عليها نتائج معينة، ولا يستطيع المسلم ولا غير المسلم أن يخرق هذه الأسوار مهما كان، أو أن يصل إلى النتائج دون المسببات والخطوات والظروف ونواميس الكون!

فمثلًا قال سبحانه وتعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}؟ هذه سنة الابتلاء، وهي من سنن الله تعالى في الناس، أي إذا ادعيت الإيمان والصدق فإن الله عز وجل سيبتليك، ولا تستطيع أن تتجاوز الابتلاء ولو علت الهمة، ولو حاولت أن تهرب، لأن هذه من سنن الله وقوانين الكون.

ومن سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه: قضية الوقت والتدرج. فالوقت شيء خلقه الله سبحانه وتعالى للبشر يدركونه كلُُّ حسب علمه، ولكن الوقت لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، ليس لله قبل ولا بعد ولا عنده زمان كذا أو ساعة كذا. هذا الشيء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى وإنما هو للبشر. ومن سنن الله تعالى في الكون ومن طبائع الأشياء أن تأخذ الأهداف وقتاً حتى تنجز. لا نستطيع أن ننقل العالم من حال إلى حال في لحظة، ولا تستطيع أن تغير نفسك في لحظة، ولن تستطيع أن تغير الأشياء من حولك في لحظة. هذا لن يحدث. و(من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه)، كما يقول الفقهاء. وإنما لابد من العمل الدءوب، ولابد من التدرج، ولابد من الوقت.

هذه من أسوار الأقدار التي يتحدث عنها الشيخ. وقد يصيب الإنسان الذي يريد أن ينقل نفسه أو يغير العالم في دقائق – قد يصيبه اليأس؛ لأنه لم يدرك هذه السنّة، أن لله سبحانه وتعالى له في خلقه أقدار هى أسوار ليس في القدرة البشرية تجاوزها أو تخطّيها.

هذا، ومن أسوار الأقدار التي ينبغي للمسلم أن يضربها على نفسه أحيانًا، ما يسميه العلماء بـ (واجب الوقت)، أي أن هناك مرحلة من حياتك لابد فيها أن تعتني بالصغار أو الكبار -مثلاً- وتهتم بشئونهم بشكل قد يستوعب الكثير من وقتك وجهدك، وهناك مرحلة من حياتك لابد أن تعمل عملاً دءوباً حتى تكتسب مالاً لتتزوج مثلاً، وهناك مرحلة من حياتك لابد أن تسافر فيها، ويقتضي واجب الوقت عليك أن تتغرب، أو يقتضى الوقت عليك أن تتفرغ لتحصيل العلم، أو يقتضى الوقت عليك أن ترتاح إذا مرضتَ مثلاً لا قدر الله. ولا تستطيع في هذه الأمثلة وغيرها أن تخرق أسوار الأقدار، لا تستطيع أن تتصرف بعد المرض كما كنت قبل المرض، أو بعد السبعين كما كنت قبل الأربعين مثلاً، هذه كلها من أسوار الأقدار ومن مراعاة واجب الوقت.

ولابد أن تراعي واجب الوقت حسب ما تعلمه أنت من نفسك، فتعلم أن من واجب الوقت في هذه المرحلة من حياتك أن تتفرغ للعلم وللمذاكرة وللتحصيل مثلًا، وأن تبتعد عن كل ما يشغلك؛ لأن هذا هو واجب الوقت، أو تعلم أن أولادك في ضائقة مثلًا وواجب الوقت أن تساعد الأولاد وأن تضع من الجهد والوقت أكثر مما هو معتاد، لأن واجب الوقت اقتضى عليك أن تساعد الأخ أو الأب أو الأم أوالأخت أو الصغيرة.

وإذا تفرغت من هذا كله فلعل واجب الوقت أن تتفرغ للعبادة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. ولن تخرق أسوار الأقدار في ذلك أيضاً. فلعلك تقول: (أنا عندي من الوقت ما يسمح أن أحفظ القرآن)، لكنك لن تحفظ القرآن في يوم ولا في شهر، وإن حفظته في شهر فستنساه في شهر، وإنما لابد أن تأخذ واجب الوقت وتراعي سنن الله في خلقه.

هذه السنن الإلهية وهذه القوانين الكونية لا تستطيع أن تحطمها بل هي التي قد تحطمك إن عارضتها. إذا أردت أن تقف أمام قوانين الكون وسنن الله عز وجل في الكون، فاعلم أن هذه السنن سوف تتعبك، (إن هذا الدين متين)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (فأوغل فيه برفق)، أي حتى اكتساب الدين له مراحله؛ لن تستطيع أن تتعلم كل الدين، أو تمارس كل الدين، يعني تنتهي من كل الواجبات والمندوبات في يوم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى): أى أن الذي يأخذ الدابة ويسافر بها ليل نهار لا يتوقف ولا يستريح ولا يعتبر بسنن الله ولا بأسوار الأقدار، هذه الدابة ستفنى حتى لو علت الهمة! وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أرضاً قطع)، أي لم يقطع المسافة المطلوبة، (ولا ظهراً أبقى)، أي لو كان هذا الظهر دابة حقيقية فستموت الدابة، ولو كان هذا الظهر هو أنت بجسدك المحدود، فسينهار هذا الجسد.

وإذا كانت الحكمة السابقة قد أرشدتنا إلى التوازن بين الخوف والرجاء، فهذه الحكمة ترشدنا إلى التوازن بين الهمة وبين القدر، بين ما تهم به وتتمنى أن تفعله بالكون وبين (أسوار الأقدار) وسنن الله عز وجل، وواجب الوقت، كما مر.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الهمم العالية، وأن يلهمنا معها الحكمة، حتى نتوازن في أفعالنا، وحتى لا نحاول أن نخرق أسوار الأقدار، ولا أن نتعب هذه الدواب التي أعطانا الله عز وجل إياها حتى تفنى. فإن (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار)، والبداية المتوازنة الهادئة –مع الهمة- أحرى أن تستمر وتدوم.