عندما ختم الله الرسالات السماوية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل كتابه مهيمناً على ما قبله من كتب؛ فإن هذا عني بالضرورة أن الشريعةَ التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لابد وأن تكون مستوعبة وشاملة وصالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:89]. قال الإمام الشافعي في “رسالته”: وليس تنزلُ بأحد من أهل دينِ اللهِ نــــازلة إلا وفــــي كتابِ اللـــــه الدليل على سبيل الهُـدى فيها. وكما هو معلوم عند أهلِ العلم أن الأحكام الشرعية منها ما هو منصوصٌ على حكمه، ومنها ما لم يُنص على حكمه. وهذا النوع الثاني يحتاج إلى اجتهاد واستنباط. ولأن الحوادث والنوازل غير متناهية والنصوص متناهية ـ بمعنى أنها لم تَنُص على حكم معين لكل نازلة معينة، كان لابد من الاجتهاد والاستنباط حتى يبقى الإسلام “صالحاً لكل زمان ومكان”. لذلك فقد استفرغ الفقهاء في كل عصر وسعهم في الاجتهاد والاستنباط لمعرفة حكم الله في كل ما يحدث للناس من أقضية ومستجدات؛ حتى تظل تصرفات المكلفين في دائرة الشريعة الإسلامية وتحت راية مقاصدها العليا ومعانيها السامية. وبمرور الزمن، يحدث للناس من الأقضية والمعاملات ما لم يكن لهم به عهدٌ وقت نزول النصوص؛ وكلها يحتاج إلى معرفة حكم الله فيه. لذلك تأكدت الحاجة للاجتهاد والاستنباط من العلماء؛ حتى يتحقق أكبر قدر ممكن من انضباط الفتوى وسلامتها من الأخطاء. ومصطلح مقاصد الشريعة يطلق على الأهداف والغايات والمعاني العامة التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في حياة الناس، كما يطلق على الأهداف الخاصة التي شرع لتحقيق كل منها حكم خاص. وتطلق كذلك بمعنى النيات، سواء نية المكلف، ولها تأثير على العبادات والمعاملات والعقوبات، أو نية الرسول صلى الله عليه وسلم في تصرفاته – تشريعاً أو قضاءً أو سياسة أو جبلة، إلى آخر ماذكر أهل العلم في هذا الباب. أما المقاصد العامة، فهي المصالح التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، مثل حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والعرض. وأما المقاصد الشرعية الخاصة: هي المعاني التي لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصد عدم الإضرار بالمرأة في باب الأسرة، ومقصد الردع في باب العقوبات، ومقصد منع الغرر في باب المعاملات المالية، وهكذا. وقد تكون المقاصد جزئية بمعنى الحكم والأسرار التي راعاها الشارع في حكم بعينه متعلق بالجزئيات، كمقصد توخي الصدق والضبط في مسألة عدد الشهود وأوصافهم، أو مقصد رفع المشقة والحرج في الترخيص بالفطر لمن لا يطيق الصوم، أو مقصد التكافل بين المسلمين في عدم إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، أو مقصد الحفاظ على سلامة الناس في الأمر بقتل الكلب العقور، أو مقصد النظافة في غسل النجاسات، وهكذا. والمقاصد كما قالوا: أُسُّ باب الاجتهاد، وعدّها الإمام الشاطبي رحمه الله الشرط الأول من شروطه. ولابد للمجتهد من معرفة المقاصد، حتى لا يخرج في حكمه على القضايا المستجدة عن حيز الشريعة نفسها. كتب ابن القيم تحت عنوان “فصل في تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد” – كتب يقول: “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل”. وهذا البحث يعرض لنوعين من أنواع التجديد المنشود من مدخل مقاصدي؛ أولهما: التجديد في نظرية المقاصد الشرعية نفسها، وثانيهما: التجديد النظري في أصول الفقه باعتبار المقاصد، وذلك عن طريق تقديم مثالين من نظريتين من نظريات الأصول، ألا وهما نظرية الدلالات ونظرية حل التعارض. أما الدلالات، فتمثل المقاصد منهجاً وسطاً بين الاقتصار على دلالات الألفاظ وبين فصل الدال عن المدلول بحجة “التأرّخ”. وأما حل التعارض عن طريق المقاصد فيقدم هذا البحث مسلكين له بديلاً عن ادعاءات النسخ بدون دليل؛ أولهما فهم تغير تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم حسب تغير الأحوال، وثانيهما فهم مقصد سماحة الشريعة في اعتبار التنوع، ومراعاة العرف، والتدرج في تطبيق الأحكام الشرعية. أولاً: التجديد في تصور المقاصد الشرعية المقَاصد هي المعاني التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، والتي يستقريها العلماء المجتهدون من النصوص الشرعية. واجتهد العلماء المقاصديون على مر العصور في وضع المقاصد المستقراة في أنساق محددة. أما النَسَقُ التقليدي لتَصْنيفِ المقاصدِ، والذي أبدعه الإمام الجويني في “برهانه” وطوره الإمام الغزالي في “مستصفاه” ثم أفاض الإمام الشاطبي في شرحه في “موافقاته”، فهو هرم مترابط من الأهداف، في قاعدته الضرورات المعروفة التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، من حفظ للدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والعرض، ثم تتلو الضروراتُ الحاجيات، ثم التحسينيات. وقد جرى عدد كبير من العلماء على هذا التقسيم حين تحدثوا عن تعريفهم للمصالح. أما العلماء المعاصرون، فنجد عندهم محاولات تجديدية تقترح أنساقاً مقاصدية رأوا أنها أولى بتحقيق مفهوم “المصلحة” في واقعنا المعاصر. فمثلاً، أَوْلَى شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور “المقاصد الاجتماعية” اهتماماً خاصاً ظهر في النسق الذي اقترحه، فجعل المقصد الكلي من التشريع هو حفظ نظام الأمة، واعتبر معه مجموعة من المعاني التي سماها بالمقاصد العامة، كالسماحة والمساواة والحرية والعالمية ومراعاة الفطرة وغيرها، وقسَّم كلاً من هذه المقاصد إلى جانب خاص بالفرد وآخر خاص بالأمة، وجعل ما هو خاص بالأمة في مستوى أعلى من ما هو خاص بالأفراد. وأما السيد رشيد رضا، فقد استقرى مقاصد القرآن في مستوى واحد مقسم إلى مجالات متعددة، وهي: إصلاح أركان الدين، وبيان ما جهل البشر من أمر النبوة، وبيان أن الإسلام دين الفطرة والعقل والعلم والحكمة والبرهان والحرية والاستقلال، والإصلاح الاجتماعي الإنساني السياسي، والتكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات، والعلاقات الدولية في الإسلام، والإصلاح المالي والاقتصادي، ودفع مفاسد الحرب، وإعطاء النساء حقوقهن، وتحرير الرقاب من الرق. واستقرى الدكتور طه جابر العلواني من القرآن الكريم مقاصد وضعها في أصل نسق مقاصدي وسماها “المقاصد الشرعية العليا الحاكمة”، وهي التوحيد والتزكية والعمران. وقد عرض الشيخ يوسف القرضاوي في كتابِه (كيفَ نتعامل مع القرآن الكريم) سبعةَ مقاصد للقرآن وهي: تصحيح العقائد في التصورات للألوهية والرسالة والجزاء، وتقرير كرامة الإنسان وحقوقه، والدعوة إلى عبادة الله، وتزكية النفس البشرية وتقويم الأخلاق، وتكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، وبناء الأمة الشهيدة على البشرية، والدعوة إلى عالم إنساني متعاون. والشيخ محمد الغزالي رحمه الله رأى إضافة العدل والشورى إلى الضرورات الستة، ومال إلى أن المقاصد ليست منظومة هرمية تنقسم فيها المقاصد إلى أعلى وأدنى، وإنَّما منظومة دائرية تتشابك فيها علاقات المقاصد المختلفة بعضها ببعض. وشاع عند العلماء المعاصرين تجديد آخر في نسق المقاصد النظري عن طريق “إعادة التفسير” للمصطلح المقاصدي الموروث. فمثلاً، ذكر أبو الحسن العامري “مَزْجَرَةَ هَتْكِ السِّتْر” التي شرع لها حد الزنى في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس، ثم اختار إمام الحرمين الجويني في “برهانه” تعبير “عصمة الفروج” للتعبير عن نفس المعنى، ثم استخدم أبو حامد الغزالي تلميذ الجويني في “مستصفاه” تعبير “حفظ النسل”، وهو التعبير الذي تبناه الشاطبي في “موافقاته”. ولكن الشيخ القرضاوي قدم إبداعاً نوعياً في هذا الباب حين أدرج “تكوين الأسرة الصالحة” في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر. وإذا جاز الحديث عن “حفظ الأسرة” فهذا لا يعني أن تُلغى “مزجرة هتك الستر” أو تسقط “عصمة الفروج” أو يُتناسى “حفظ النسل”، وإنما يعني أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية والجماعية جزء من بناء الأسرة وفي إطارها، وهو أَوْلَى لتحقيق المصلحة في عصرنا، إذ لا يخفَى أن إعطاء هذه الأولوية لمصلحة الأسرة يعزِّزُ من حقوقِ المرأة -التي تحتاج إلى دعم إذا ما استقرَيْنا الواقعَ المعاصر- وحقوقِ الأولاد الذين هم عماد مستقبل المجتمع والأمة، ويحميهم جميعاً من التعسف والبخس. وبهذا التطوير للمصطلح المقاصدي تُوظَّف الشريعة في خدمة قضايا الأمة ومصالحها المعاصرة. وتكلم العامري كذلك عن مقصِد سماه “مَزْجَرَةَ أَخْذِ المال” التي شُرِعَتْ لها حدود السرقة والحِرابة، وكان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى هو مصطلح “عصمة الأموال”، ثم طوَّرَ أبو حامد الغزالي ذلك المعنى في “مستصفاه” إلى جزء من نظرية الحفظ عنده وسماه “حفظ المال”، وأصَّل الشاطبي لنفس المعنى في “موافقاته”.