مقتطفات من كتاب ” الاجتهاد المقاصدي” للدكتور جاسر عودة

البحث الأول: الاجتهاد في تصور مقاصد الشريعة – نظرية الضرورات نموذجاً

تكلم العامري الفيلسوف عن مقصد سماه “مزجرة أخذ المال” التي شرعت لها حدود السرقة والحرابة، وذلك أيضًا في سياق ارهاصته المبكرة بالضرورات الخمس. ثم كان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى عن مفهوم أخر من مفاهيم العصمة، وهو “عصمة الأموال” ثم طور أبو حامد الغزالي ذلك المعنى في مستصفاه إلى جزء نظرية الحفظ عنده وسماه “حفظ المال” وأصّل الشاطبي لنفس المعنى في موافقاته. والمال مذكور في مواضيع كثيرة من القرآن، وهو قوام حياة الناس. وأهمية كون المال من طيب الكسب ومكرمة الجود به وعار البخل به كلها مفاهيم أصيلة في ثقافة العرب وتصوراتهم. قال حاتم الطائي – مثلاً:

إذا كان بعض المال ربًا لأهله            فإن بحمد الله مالي معيد

يُفك به المعاني ويُوكل طيبًا                       ويعطي إذًا من البخيل المطرد

 

أما في العصر الحديث، فقد توسع مفهوم المال ليشمل مفهوم الثورة والقيمة والتي ترتبط بالاقتصاد المحلي والدولي. وعبرت عن هذا التطور نظريات “الاقتصاد الإسلامي” التي زاد البحث العلمي الجاد فيها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة بعد ظهور مشاريع البنوك الإسلامية. ثم حد تطور نوعي في تناول مقصد حفظ المال.

 

عند بعض المعاصرين، وأصبح مفهومًا اقتصاديًا استقرأ السيد هادي خسروهاشي – مثلاً – من أجله من نصوص الكتاب والسنة ما يُلزم الدولة بتحقيق التكافل والتعادل والتقريب بين الطبقات، بالإضافة إلى ما يحفظ أموال الأفراد من الاعتداء والغصب – وهو المفهوم الأساس[1].

وقد فسر بعض الباحثين المعاصرين حفظ المال بالازدهار الاقتصادي بل والتنمية. فمثلاً، كتب الدكتور أبو يعرب المرزوقي (على الرغم من نقده لعلم المقاصد نفسه على أساس “عدم قطعيته” – ويناقض ذلك مبحث قادم): “إنما حفظه (أي المال) يكون بتحقيق شروط تكوينه السوي وأولها الدولة العادلة وشروط توزيعها المناسب للجهد والعدل بحسب ما فرضه الإسلام من معايير. فيكون الحفظ هنا تحقيق شروط المكافأة العادلة التي هي شرط شروط الازدهار الاقتصادي”[2] وكتب الدكتور سيف عبد الفتاح: “المقاصد الكلية ليست إلا صياغة لمفهوم متكامل للتنمية من منظور حضاري”[3] وهذه الاضافات القيّمة بحاجة إلى بحث وتأصيل حتى تربط بالنصوص الشرعية وتفسر من خلالها مصطلحات المقاصد تفسيرًا جديدًا أو لعلها تكون سبيلاً لتقديم مصطلحات مقاصدية جديدة في هذا الباب أقرب لرؤية العالم اليوم في ما يصلح الناس. وهذه آلية لتفعيل المقاصد تفعيلًا يمس مشاكل الناس ويتعامل مع واقعهم. فحسب تقارير الأمم المتحدة في الأعوام الأخيرة، تقع غالبية الدول الإسلامية (وتحتوي على حوالي 90% من المسلمين) في مستوى أقل من المتوسط في مقياس التنمية البشرية، والذي هو مفهوم أوسع من التنمية الاقتصادية، تقيسه لجنة التنمية بالأمم المتحدة بناء على عدة مقاييس لمستويات الصحة ومحو الأمية والمشاركة السياسية وتفعيل دور المرأة وسلامة البيئة، بالإضافة إلى مستوى المعيشة[4]. وبناء على هذه المرونة التي يتمتع بها مصطلح المقاصد، فإنه يمكن صياغة مقصد “للتنمية البشرية” يكون له تميزه بإضافة مقاييس إسلامية تعبر عن قيم الإسلام الأصيلة. فمثلاً، محو الأمية واجب إسلامي، ولكن الإسلام لا يكتفي بمحو الأمية أو التعليم الأساسي لقياس مستوى التعليم في المجتمع كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، إذ يجعل الإسلام من طلب العلم فريضة دون تحديد حد أعلى لذلك، ويجعل من التفوق في كل علم أيًا كان فرضًا كفائيًا إسلاميًا. والمشاركة السياسية في مفهوم الإسلام لا تقاس فقط بنسبة التصويت في الانتخابات أو عدد الوزراء من طائفة أو أقلية ما، كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، وإنما المشاركة في صنع القرار السياسي على كل المستويات مسؤولية إسلامية على كل مسلم، سماها الرسول صلى الله عليه وسلم “النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم”[5].

 


([1])  في ورقته التي قدمها تحت عنوان “حول علم المقاصد وبعض أمثلتها التطبيقية” في نفس الندوة المذكورة أعلاه.

([2])  من بحث: “محاولة في فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية” – أبو يعرب المرزوقي – أرسله لي مشكورًا عن طريق البريد الإلكتروني – وهو على حد علمي تحت الطبع في سلسلة حوارات لقرن جديد – دار الفكر.

([3])  ورقة قدمها تحت عنوان: “نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية – مقاصد الشرعية الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا، لندن، 2006. وصد بها التنمية البشرية بمفهومها الشامل..

([4])    United Nation Development Programme UNDP, Annual Roport; http://www.undp.org/annualreports/.

([5])  صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي ببيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ج:1 ص:75.