مقتطفات من كتاب “الاجتهاد المقاصدي” للدكتور جاسر عودة

البحث الأول:  الاجتهاد في تصور مقاصد الشريعة: نظرية الضرورات نموذجاً

 

رؤية العالم أو “ثقافة التصورات الذهنية”

رؤية العالم مفهوم حديث نشأ في الفلسفة الألمانية منذ قرن من الزمان، ثم امتد تأثيره لكثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة. ورؤية العالم منظومة ذهنية وإحساس بالواقع يشكلان نظرة الإنسان لما حوله في الحياة وأسلوب تفاعله معه.[1] أما على مستوى المجتمعات، فيكون كل مجتمع رؤية جماعية للعالم خاصة به تحدد أيضًا تفاعله مع هذا العالم، وتعرف بثقافة التصورات الذهنية لهذا المجتمع.[2] ورؤية الفرد أو المجتمع للعالم هي نتاج بضعة عوامل حددها علماء التصورات العقلية بالحياة البيئية والطبيعية والموقع الجغرافي والحدود السياسية والموارد الاقتصادية والمنظومة الاجتماعية واللغة السائدة[3]. هذه العوامل تكون في ذهن الفرد أو المجتمع دليلاً ومرجعًا للخبرات التي يُعَّرف على أساسها ويقاس عليها ما يجد من مفاهيم وأحداث. وكلما تغير عامل أو أكثر من هذه العوامل المذكورة كلما تغيرت رؤية العالم والتصنيفات الذهنية التابعة لها في ذهن الفرد أو ثقافة المجتمع.

فما يُطرح على الذهن من معطيات ايًا كانت يمكن أن تصنف بما لا يحصى من معايير التصنيفات الذهنية، وإنما تحدد رؤية العالم أسلوب التصنيف عن طريق المفاهيم التي يدور حولها التصنيف ويتغير كلما تغيرت.

وعندما طرح أئمة المقاصد نظريات للمقاصد منذ الترمذي الحكيم (ت 296 هـ) والقفال الكبير (ت 365 هـ) والعامري الفيلسوف (ت 381 هـ)، مرورًا بالجويني (ت 478 هـ) والغزالي (ت 505 هـ) والشاطبي (ت 790 هـ) وانتهاء بابن عاشور (ت 1379 هـ / 1973م) والفاسي (ت 1380هـ/1974م)[4]، كانت نظاريتهم لنصوص الشريعة حسبما تصوروا من غاياتها والمعاني التي شرعت من أجلها[5]. ولكن قبل الشروع فيما يلي من محاولة لتحليل هذه التصنيفات حسب مفهوم رؤية العالم، وجب القول أن هدف هذا التحليل هو فهم آليات التجديد والإبداع في هذا العلم – علم المقاصد الشرعية – والاستفادة منها في البحث المعاصر، وليس الهدف من هذا التحليل الدعوة إلى نبذ المقاصد بدعوى عدم مناسبتها للعصر كما قد يتسنى لبعض “التفكيكيين” المعاصرين ممن يتبنون فلسفات مع بعد الحداثة، مما سيأتي ذكره في مبحث لاحق. فقناعتي أن المقاصد والمقاصدين أمل كبير من آمال هذه الأمة في تجديد أصيل ومبدع ليس في علومها الشرعية فقط وإنما في علومها الاجتماعية والانسانية على حد سواء. ولكن هذا التجديد لابد له – فيما يبدو لي – من فهم لقابليات التجديد في نظريات المقاصد نفسها حتى تفعّل هذه القابليات التفعيل الصحيح دون إفراط تضيع معه الثوابت الإسلامية أو جمود تتحول فيه المعاني الاجتهادية إلى ثوابت مقدسة.

وقد يُسأل: كيف يكون المعنى الواحد نتيجة لرؤية العالم عند المجتهد وفي نفس الوقت مقصودًا للشارع تعالى؟ والجواب هو أنه لا تناقض بين هذا وذاك. فالمقصد من النصوص الشرعية إما أن ينص الشارع عليه صراحة – كالعدل مثلاً[6] – وإما أن يُستقرأ – مثل حفظ النسل. فأما المعنى المنصوص عليه صراحة فليس لرؤية العالم داخل في تصور معناه المجرد، ولكن في تصور تطبيقه في الواقع الاجتماعي. فقد تختلف الإجراءات المطلوبة لتحقيق مقصد العدل مثلاً من مجتمع لمجتمع، وهذا مثل ما يسمى عند الفقهاء بمراعاة العرف في تحقيق المناط، وأما المعنى الذي يُستقرأ فلا يتناقض استقراؤه مع كونه مقصودًا للشارع تعالى حسب غلبة الظن عند المجتهد، فإنما الأعمال بالنيات، ولا يكلف الله تعالى العباد إلا بما تصل إليه عقولهم بعد بذل الوسع ويغلب على ظنهم الصواب، والله أعلم بمراده في جميع الأحوال. من ذا الذي يدعى أنه أصاب باستقراء أو استنباط قصد الله تعالى اليقين واستحق به التكليف. فإذا غلب على ظن المجتهد أن معنى معينًا مقصودًا للشارع وجب عليه مراعاته ولزمه ذلك. كتب الدكتور محمد سليم العوا في سياق حديثه عن دور المقاصد في التشريعات المعاصرة: “الفقهاء اجتهدوا في كثير من هذه المسائل اجتهادات وّصّفَت ما كان يجرى عليه العمل في عصور الاجتهاد، أو صنعت قواعد تعبر عن مفاهيم للقيم الإسلامية في مختلف المجالات وتحقق ما رأوه مقصدًا للشريعة في كل باب من تلك

الأبواب. لكن تلك الاجتهادات ليست بالضرورة صالحة لكل زمان ومكان فتلك منزلة لا يبلغها إلى القرآن والسنة الصحيحة. أما ما دونهما فهو بين أجيال الأمة وعصورها على الشيوع يجب أن يجتهد كل جيل فيه”[7].

والمباحث التالية تضرب أمثلة على الاجتهاد الذي حدث عبر أجيال المقاصديين في مصطلحات الضرورات من المقاصد، وتحاول تحليل أثر رؤية العالم على تطور هذه المصطلحات.

 

1- من حفظ النسل إلى بناء الأسرة

ذكر أبو الحسن العامري الفيلسوف “مزجرة هتك الستر” التي شرع لها حد الزنا في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس في كتابه الإعلام بمناقب[8] الإسلام ثم ورد التعبير الذي اختاره إمام الحرمين الجويني في برهانه وهو “عصمة الفروج” ثم استخدام تلميذ الجويني أبو حامد الغزالي في مستصفاه تعبير “حفظ النسل” وهو التعبير الذي تبناه الشاطبي – معلم المقاصد الأول – في موافقاته[9]: “أما المعلم الثاني – الطاهر ابن عاشور – فقد قدم إيداعًا نوعيًا حين كتب عن النظام الاجتماعي في الإسلام في إطار غايات الشريعة وأهدافها، وكان رائدًا في هذا المقام للمعاصرين من أمثال الشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم.

وهذا التطور الذي دخل على هذا المصطلح عبر الأجيال كان موازيًا للتطوير الذي حدث لثقافة التصورات في مجتمع المسلمين ورؤية العالم عند هؤلاء الأئمة الذين تفاعلوا مع الواقع فيما طرحوه من إطروحات. “فمزجرة هتك الستر” اقتصرت على بيان حكمة الحدود في الشرعية في الباب، كما ذكر العامري، وهو تعبير يصور مجتمعًا يسعى لسلامته وامنه بردع المجرمين وهاتكي الأستار فيه. ولكن “عصمة الفروج” – وهو تعبير الجويني – لا يتعلق فقط بردع الجريمة في هذا الباب وإنما يعبر أيضًا عن مبدأ يمتد ليشمل خلقًا منشودًا وحقًا من حقوق الفرد والمجتمع في عصمة فروجهم. أما “حفظ النسل” فهو أوسع من المفهومين السابقين لأنه يشمل درء المفاسد ودعم المبادئ المذكورة بالإضافة إلى مصلحة الفرد في حفظ فلذة كبده، بل ويلقى تعبير حفظ النسل ظلالاً على

مصلحة الأمة في حفظ الأجيال الناشئة، وهو مفهوم حضاري أوسع من قضية الزجر عن هتك الستر أو الحفاظ على عصمة الفروج.

ثم لما أدرج الشيخ القرضاوي “تكوين الأسرة الصالحة” في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر[10] عكس ذلك المصطلح رؤية للمجتمع تظهر فيها الأسرة كوحدة بنائه الأساسية، وهي رؤية تختلف عن الرؤية التقليدية. وهذا لا يعني أن تلغى “مزجرة هتك الستر” أو تسقط “عصمة الفروج” أو يُتناسى “حفظ النسل” وإنما يعني أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية أو الجماعية جزءًا ونتيجة لبناء الأسرة وفي إطارها، وهو أولى، ولا يخفى أن إعطاء هذه الأولوية لمصلحة الأسرة يعزز من حقوق المرأة – التي تحتاج إلى دعم إذا ما استقرأنا الواقع المعاصر – وحقوق الأولاد الذين هم عماد مستقبل المجتمع والأمة، وحمايتهم جميعًا من التعسف والبخص. وبهذه المرونة في تطوير المصطلح المقاصدي توظف الشريعة الإسلامية في خدمة قضايا الأمة ومصالحها المعاصرة.

 



[1]  O. B Jenkins, What is Worldview?(1999 [cited Jan. 2006]); available from http://orvillejenkins.com/worldview/worldwhat.html – وسأذكر في هذه الورقة المراجع الأجنبية بلغاتها المكتوبة بها، وتقرأ سطورها من اليسار إلى اليمين.

[2]  Encyclopedia Wikipedia, Worldview (cited jan. 2006) available from http://en.wikipedia.org

([3])  نفسه.

([4])  للدكتور أحمد الريسوني الفضل في وضع أئمة المقاصد المذكورين في إطار تاريخي واحد من خلال ورقته التي قدمها تحت عنوان “البحث في مقاصد الشريعة: نشأته وتطوره ومستقبله” للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية – دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا، لندن، 2006

([5])  التفكيك (deconstruction) هو مصطلح استحدثه جاك دريدا (وهو فيلسوف فرنسي يهودي من أصل جزائري) في الستينات القرن العشرين لتفكيك والتخلص – حسب رأيه ج من كل تمحور أو تمركز حول أي سلطة كانت سواء كانت لنص أو لدين أو لجنس أو لأشخاص. أما “ما بعد الحداثة” (postmodernism) فهي مدرسة فلسفية معاصرة اختلفت الآراء في تعريفها كثيرًا بين “اللاعقلانية” و”فسيفساء الأضداد” و”المدرسية الشكية الجديدة.” راجع: Taylor, V.and Winquist, C., ed. Encylclopedia of Postmodernusm. New York: Routledge, 2001.

([6])  (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) النحل 90. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد 25. وإدخالي للعدل ضمن منظومة المقاصد انقله عن كثير من العلماء المعاصرين مثل الطاهر ابن عاشور ومحمد الغزالي – رحمهما الله. راجع: جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، المعهد العالي للفكر الإسلامي بفرجينيا ودار الفكر بدمشق، 2001م.

([7])  محمد سليم العوا – دور المقاصد في التشريعات المعاصرة، سلسلة المحاضرات (1)، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، 2006.

([8])  والتي أشار إليها الدكتور الريسوني في بحثه “البحث في مقاصد الشريعة، نشأته وتطوره ومستقبله” – المذكور أنفًا – نقلاً عن الإعلام بمناقب الإسلام، ص:125م.

([9])  نفسه. وتعبير المعلم الأول والثاني تعبير طريف للدكتور محمد الطاهر الميساوي ذكره في مقدمته لكتاب محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية – مرجع سابق.

([10])  في ورقته التي قدمها تحت عنوان “بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، دراسة في فقه مقاصد الشريعة” للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية – مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج. ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا، لندن، 2006، وقد ذكره من قبل في كتابه: كيف نتعامل مع القرآن الكريم – طبعة دار الشروق.