﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ – صدق الله العظيم.
مفهوم (سيادة الدول) من أكبر الأكاذيب والخرافات بل الكوارث الفكرية والسياسية التي حلت بالبشرية في عصرنا، والتي تستثمرها نظم الاستبداد جيداً وتتكسب منها مكاسب هائلة على الأرض، خاصة في وأد الجهاد في الإسلام أو تشويهه لصالحهم. وأحداث #الروهينجيا كاشفة لذلك وبكل وضوح، ولابد من دراستها في سياق تفكيك منظومات الاستبداد.
فقد أصبح الإنسان المعاصر – شرقاً وغرباً، مسلماً وغير مسلم – يحول بينه وبين الإحساس الإنساني بالبشر في مختلف دول العالم، قناعته بأنهم (مواطنون) (ينتمون) إلى دول أخرى (أجنبية) وهي بالتالي منفصلة سياسياً وشعورياً عن ذلك الكيان الوهمي – العنصري – الذي يعتبرونه دولهم (الوطنية). وبالتالي تجد إنسان العصر متألماً لا يملك غضبه ولا دمعه ولا شعره ولا نثره، إذا جرح أو أصيب شخص أو بضعة أشخاص من بلده في حادث عنف أو سيارة أو قطار، بينما نفس الإنسان لا تهتز له شعرة ولا يحس بأي ألم ولا معاناة من جراء بشاعة التعذيب أو الاغتصاب أو القتل بدم بارد لعشرات ولا مئات ولا ملايين من البشر من بلاد أخرى يعتبرها (أجنبية) ليس عنده تجاهها شعور (انتماء وطني) مزعوم.
ونظم الاستبداد بكل أنواعها وسياسيوها الخبثاء بمختلف ألوانهم ينمّون هذا المفهوم الأكذوبة ويدعمونه بالقول والفعل في كل مناسبة متاحة، ذلك لأنهم إذا آمنت شعوبهم المسكينة بحتمية وطبيعية سيادة الدولة تحت قيادتهم (الرشيدة)، فإنهم وباسم تلك السيادة قد أعطوا لأنفسهم الحق كل الحق في حساب مفتوح لقمع معارضيهم ومعارضي الاستبداد، بل وقمع من يضيقون بهم من شركائهم في جرائمهم إذا دارت دوائر النزاع بينهم، وباسم (سيادة الدولة) تستباح الأرواح والأعراض والعقول والأموال العامة والخاصة. والإشكالية الحقيقية هنا هو ذلك الضمان الذي تمنحة سيادة الدول في ما يسمى القانون الدولي لأن تتغافل الإنسانية وتغيب العدالة وتضيع الحقوق في ما يعتبر خارج حدود هذه الدول من (الدول الأخرى) أياً كانت ومهما حدث.
ثم لا يتكلف المستبدون في الدول (ذات السيادة) إلا تكلفة سياسية ومالية زهيدة ولو عظمت جرائمهم. والتكلفة تكون مثلاً في اصطناع قضايا في المحاكم العادية أو الاستثنائية إن لزم الأمر لقتل وسحلوسجن المعارضين وتصفيهم أيضاً باسم (القانون) و(سيادة الدولة)، ولا تكلف تلك القضايا إلا بعض الأصوات المزعجة من منظمات حقوق الإنسان وأحياناً تكلف تعبيرات عن (القلق) من بعض المغرضين من السياسيين في الدول الأخرى. والتكلفة تكون أحياناً في اصطناع (سياسات) لإدارة – أو سرقة – الأراضي والاستثمارات والإشراف على تطبيق ذلك على الأرض باسم (القانون) و(سيادة الدولة)، أو تتكلف نظم الاستبداد على أكثر تقدير بإدارة عمل مخابراتي به بعض التعقيد من أجل إحتواء (إرهاب) مزعوم يهدد الدولة وحياة المواطنين – أو هكذا يشيعون بعد أن يضحوا ببعض هؤلاء المواطنين مدخلاً لتلك المسرحية. هذا حال الاستبداد اليوم في مختلف الدول شرقاً وغرباً، على الطريقة الديكتاتورية وعلى الطريقة الديمقراطية كذلك.
ثم إن السكوت على تلك الانتهاكات من السياسيين والأنظمة خارجياً مضمون، وذلك في ظل استمتاع الجميع بسيادة الدول المزعومة بدرجات مختلفة، حتى لو اضطر السياسيون في الدول الأخرى أن يتصنّعوا بعض الشجب والاستنكار لتحقيق مكسب سياسي أو إعلامي هنا أو هناك، أو أن يتصنعوا بعض التضييق على بعض الحسابات ومنع بعض الأشخاص من دخول بعض الدول، إلى آخره. سوريا مثل صارخ على كارثية مفهوم (سيادة الدولة) في ذلك السياق خاصة حين تقع هذه السيادة في يد حفنة من القتلة المجرمين، والعالم العربي والإسلامي مليئ بالأمثلة وإن كانت أقل في حجم الكارثة.
وأما السكوت داخلياً على الجرائم ضد الإنسانية فلا يكلف نظم الاستبداد إلا بعض الرشاوى لمن يملكون وسائل العنف – الرسمية منها وغير الرسمية – لقمع المواطنين، ولعل أهل الاستبداد يلقون ببعض فتات الغنائم بعد ذلك لحفنة من أهل التشريع وأهل القضاء وأهل الإعلام وأهل الفن، بل وأهل الفتوى أحياناً.
والاستبداد في العالم الإسلامي هو أهم أسباب استمرار ما يحدث لمسلمي الروهينجيا بميانمار، والذين رغم اضطهادهم بسبب دينهم إلا أنهم لم يجدوا في بني دينهم ناصراً ولا معيناً. ما يسميه الإعلام (تمييز) أو (اضطهاد) للأقلية المسلمة هناك هو اسم أنيق لواقع الحرب الصُّراح على الإسلام ومحاولة اقتلاعه من تلك البلاد عن طريق الذبح والتعذيب والاغتصاب والتجويع والتهجير للمسلمين والمسلمات من كل الأعمار. ونظم الاستبداد تهرب من المسؤولية الشرعية والإنسانية بالاختباء خلف مفهوم (سيادة الدول) والتذرع به سبباً لإهمالهم لمسؤوليتهم الشرعية والإنسانية، ولأن لكل منهم (روهينجيا) خاصة به، والحال من بعضه!
فقد رأينا في السنوات الأخيرة وإلى الأسابيع الأخيرة أن أنظمة الاستبداد في بلاد المسلمين سكتت تماماً ولم تعلق على تلك الحرب على الإسلام، موحية بخبث أنها لا يتحتم عليها أن تعلق ولا تتصرف نظراً لأنه شأن يخص دولاً أخرى ونحن (عندنا ما يكفينا من الهموم) على حد قول أحدهم. ورأينا ويا للعجب (تظاهرات) و(احتجاجات) قام بها البعض من هؤلاء الحكام المستبدين – بل بمساعدة بعض الأحزاب والحركات (الإسلامية) للأسف – وكأنه مشروع لرؤساء الدول أن يتظاهروا في الشوارع كما يفعل الناس وهم في السلطة وبيدهم مفاتيح القوى الحقيقية – الناعمة منها والخشنة. ثم قالوا إن التظاهر هذا هو أقصى ما يمكنهم فعله نظراً – أيضاً – لتعلق الأمر بدولة أخرى ذات (سيادة).
ثم رأينا مؤخراً تجرأ بعض زعماء تلك العصابات الخطيرة الحاكمة من أمثال رئيسة بنغلادش، وهي الدولة ذات الحدود المباشرة مع ميانمار، رأيناها تقول بصلافة تحسد عليها إن المذابح والتصفية (شأن داخلي) يخص ميانمار ولا شأن لبلادها ولا شعبها به، وأن الحكومة في ميانمار (تتعامل مع الأمر). ولا عجب فقد استندت هي على الادعاء نفسه حين قتلت زعماء الحركة الإسلامية المعارضة لها بدم بارد في جرائم ملفقة وشهد العالم معها (روهينجيا) بنغلاديشية خاصة لم يحرك أحد لها ساكناً.
والحق أن الحل القرآني الواضح لظاهرة استضعاف الناس – مسلمين وغير مسلمين – هو الجهاد (فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)، كما تنص الآية الكريمة التي ذكرت آنفاً. ولكن من أكبر العقبات أمام فريضة الجهاد في سبيل الله لنصرة المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً هي – مرة أخرى – خرافة (السيادة الوطنية). ولعل خنق الجهاد على مستوى الأمة الإسلامية هو أحد أسباب تقسيم الاستعمار القديم/الحديث للأمة إلى تلك الدويلات الضعيفة، والتي تدعي (السيادة) وهي قد فقدت كل معاني السيادة والكرامة حين فقدت إرادتها المشتركة في الدفاع عن نفسها ومقدراتها بوسائل العنف المشروعة في شريعتها الغراء وفي عرف الإنسان العاقل.
كيف السبيل إذن إلى إحياء الجهاد وهو السنة الماضية التي لا بديل عنها في إزهاق الحق للباطل وتداول الأيام بين الناس؟ كيف السبيل في ظل نظام دولي لا حرج فيه أن تحارب الدول القوية من تشاء وقتما تشاء وكيفما تشاء، ولكن على الدول الضعيفة كل الحرج في (التدخل) في شؤون (سيادية) لدول أخرى؟
والجواب الذي يتسع له المقام هنا هو أنه لابد أولاً أن يطرح الشباب جانباً أفكار العنف العشوائي على الطريقة التي نراها اليوم من الجماعات التي تدعي الجهاد والجهاد منها براء. هذا الجهاد المزعوم يضر الجهاد الحقيقي أكثر مما ينفع ولا يخدم إلا الأعداء من كل نوع، ولا يحقق طائلاً ولا تقدماً في الطريق الصحيح. لماذا؟ لأنه مجرد رد فعل أعمى ليس مبنياً على استراتيجية مدروسة ولا خطة محكمة.
لابد للكيانات الإسلامية التي تعنى بأحوال الأمة على مختلف المستويات أن تفكر بشكل استراتيجي لإعادة مفهوم الجهاد الحقيقي ومؤسساته إلى حياة الأمة، ولا يصدها عن ذلك الظرف السياسي والإعلامي الحالي مهما كان حرجاً. لابد للكيانات الإسلامية – بل والإنسانية الشريفة بشكل عام – أن تبدأ في التفكير في الوسائل (الخشنة) لكي تقضي المجتمعات الإسلامية والإنسانية نفسها على تلك العصابات السفاحة وتفكك تلك الكيانات المستبدة. لا سبيل للجهاد في سبيل الله والمستضعفين دون مجتمعات قوية تقرر هي الجهاد – الجماعي لا الفردي – وتقوم له وتستعد لدفع الثمن من أعز أولادها وبناتها. وطبعاً هذه المجتمعات تحتاج إلى قيادات تاريخية، ولكن قطز وصلاح الدين لا يأتون من فراغ بل هم نتاج لمجتمع قوي وواعي.
وهذا ليس حلاً على المدى القصير، بل الوضع الحالي يحتم العمل الطارئ في المساحات المتاحة إعلامياً وسياسياً وشعبوياً خاصة في الدول التي يحتاج فيها السياسيون إلى أصوات الناخبين. هذا قد يخفف من حجم الكارثة على نحو ما. ولكن لا غنى مع هذه الإجراءات الطارئة من منهج طويل النفس ومتعدد الأبعاد لتربية جيل جديد من الشباب على الجهاد، جهاد مشروع ينصر الحق فعلاً ويقف مع المظلومين حقاً، لا الدعاوى المخابراتية الكاذبة التي ينخدع بها بعض الشباب اليوم.
وأول خطوة في هذا الطريق – والحديث فيه ذو شجون – هو إسقاط خرافة (السيادة الوطنية) من عقول شباب الإسلام، والتربية على التعامل مع الإنسان في العالم الواسع على أنه هو نفس الإنسان، والعدل هو العدل حيثما كان، والحق هو الحق حيثما كان، سواء كان الأمر متعلقاً بمواطن من (بلدي) أو كان (أجنبياً) من دول (أخرى). مفتاح الحل في أن تدرك البشرية – والمسلمون في طليعتها – أن الحق والعدل لا يتجزأ، وأنه ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، وأن نصرة المستضعفين فريضة إسلامية وإنسانية في كل مكان ومن كل ملة ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾. صدق الله العظيم.