يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:

 مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّللِ.

نويت أن أبدأ رحلة إلى الله سبحانه وتعالى! لكن السؤال هو: من أين أبدأ؟ وعلام أعتمد؟ هل يصح أن أسترجع من ذاكرتي عملي الصالح وأعدّده، ثم أعتمد عليه في بدء الرحلة؟

والجواب الذي يبينه الشيخ في هذه الحكمة هو: لا، لا يصح أن أعتمد ولو على عملي الصالح، وإنما أبدأ رحلتي إلى الله اعتماداً على الله فقط، واستحضاراً لرحمته وفضله فقط.

ويسأل سائل: أليست الرحمة من الله هي نتيجة لعملي الصالح؟ والجواب أيضاً: لا! لأنه: ماذا لو قصّرتُ في عملي الصالح؟ هل تتوقف الرحمة الإلهية؟ هل ينقطع الفضل الإلهي؟ والجواب: لا، {ولَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}. إذن، فلْأعتمد على هذه الرحمة الإلهية وهذا الفضل الإلهي مهما قصرت، وهذا هو السبيل للبداية الصحيحة.

والبداية الصحيحة لابد أن تقترن أيضاً بالتوبة من الزلل والخطأ. فمن سنن الله تعالى في كونه أنني إذا أردت أن أضيف شيئاً ما إلى أي مكان، لابد أن يكون هناك فراغ متاح لهذه الإضافة. فإذا أردت أن أملأ قلبي بالنور وبذكر الله، لابد أن أفرّغه أولاً مما يتعارض مع ذلك، من الأقذار والظلمات والبقع والذنوب. ساعتها، يتيسر بفضل الله تعالى ملؤه بالخير، أو بتعبير أهل التصوف: (لابد من التخلي ثم التحلى ثم التجلى)! إذن، أبدأ بأن أتوب لله عز وجل من التقصير. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ومع التوبة هناك معنى آخر ضروري يركز عليه الشيخ في هذه الحكمة الأولى، ألا وهو الرجاء. لابد أن أستصحب التوبة والرجاء. أما السؤال عن كيفية ربط التوبة بالرجاء في هذه البداية، فهذا هو الذي يبينه الشيخ.

يقول رحمه الله ورضى عنه: (من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل). ومعناه: علامة من العلامات التي تعرف بها أنك تعتمد على عملك، وتتوكل على عملك، وتضع كل همك في عملك، لا في رحمة الله وفضله، هو: أن يقل رجاؤك في الله سبحانه وتعالى حين تزل وتخطئ ثم تشرع في التوبة.

أولاً، التوبة لها شروط:

الشرط الأول: الندم على المعصية.

الشرط الثاني: الإقلاع عن المعصية.

الشرط الثالث: العزم على ألا تعود إلى المعصية.

الشرط الرابع: إذا كانت التوبة متعلقة بحق من حقوق العباد، فلابد أن ترد هذا الحق إلى أصحابه.

فإذا أردت أن تتوب وقبل أن ندخل في معاني الرجاء ومعاني الاعتماد على العمل، لابد أن تحقق الشروط الواجبة للتوبة، والشرط الأول هو الندم، أي أن تندم على المعصية. و(الندم توبة)، كما علمنا صلى الله عليه وسلم.

وأما الإقلاع، فهو الإقلاع عن المعصية. فلا يمكن أن تستمر في المعصية وتقول: أنا تائب! وأنت مستمر. هذا نفاق لا يجوز.

وأما الشرط الثالث فهو أن تعزم على ألا تعود إلى المعصية. يعني: لا يمكن أن تندم، ثم تقلع، ثم تنوي في نفسك: سأعود إذن في الأسبوع القادم! وإنما تندم وتقلع وتعزم بصدق على أن لا تعود إلى معصية أبداً. فإذا حدث وعدت، لابد أن تجدد التوبة وتجدد الندم العزم وبصدق على أن لا تعود، وهكذا. والله غفور حليم ورحمن رحيم، لا يعزّ عليه أن يقبل التوبة مرات ومرات، بل هو يفرح بتوبة العبد كل مرة.

وأما الشرط الرابع، فقد قال العلماء: إذا كانت التوبة متعلقة بحق من حقوق العباد، فلابد أن ترد هذا الحق إلى أصحابه، يعني مثلاً إذا أخذت شيئًا بغير حق أن ترد هذا الشيء، أو كان هناك ظلم في قضية ما، فلابد أن تصلح هذا الظلم من نفسك، أو أن تنسب الحق إلى أصحابه، أو أن تستسمح الناس في أعراضهم أو أموالهم، وهكذا.

والشيخ هنا يفترض أنك مستوف لهذه الشروط. ولكن الحديث هنا عن أدب من آداب التوبة، وهو الرجاء، والآداب غير الشروط. وإنك إذا حققت هذه الشروط لابد معها أن تتحقق بالأدب وأن ترجو الله سبحانه وتعالى رجاء أن يقبل توبتك. { أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ولكنه أحيانًا ما يقدح في هذا الرجاء الآتي: أن تقول: كيف أرجو رحمة الله سبحانه وتعالى وأنا قد ارتكبت هذا الخطأ؟ وقد فعلت كذا وكذا؟ كيف يقبل الله سبحانه وتعالى توبتي؟ ويؤثر هذا الكلام على رجائك في الله سبحانه وتعالى بل قد يتحول الإنسان إلى القنوط واليأس من رحمة الله، والعياذ بالله. {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}.

والشيخ هنا يقول: لا ينبغي أن تؤثر الذنوب على الرجاء، مهما كانت الذنوب! لأنه إذا صحت التوبة فإن الله عز وجل يقبلها. (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، كما قال صلى الله عليه وسلم.

فإن تبت توبة نصوحاً فإن الله عز وجل سوف يقبل توبتك مهما كانت الذنوب، وهذه الذنوب لا تساوي شيئا عند الله سبحانه وتعالى، (يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا أتيتك بقرابها مغفرة)، كما في الحديث القدسي.

إذن، الرجاء هنا لا ينبغي أن يتأثر بحجم الذنب، وإنما ينبغي للقلب أن يخلص النية في هذه التوبة وأن يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى. و(أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء)، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي.

وإذا استكبرت الذنب على رحمة الله، أي قلت: (ذنوبي كبيرة وكثيرة، ولن يقبل الله عز وجل توبتي)، إذا فعلتَ ذلك فأنت لم تصحح الرجاء ولم تتوكل على الله حق توكله. بل أنت متوكل على نفسك، متوكل على عملك، أنت عبد للعمل وليس عبداً لله. أنت تظن أنك بعملك وحده تضمن رحمة الله، وهذا خطأ!

وبالطبع هذا لا يعني أن نترك العبادة ونهمل العمل، ولكن يعني ألا نعتمد على العبادة أو العمل الصالح، لأن العمل الصالح وحده لا يكفي لا في قبول التوبة ولا في دخول الجنة!

وهذا الكلام ليس بدعاً من القول كما قد يتوهم البعض. فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الستة: (سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة). والحديث له روايات منها: (إلا أن يتغمدني الله بفضله)، و(إلا أن يتغمدني الله برحمة). و(سددوا وقاربوا)، أي: اجتهدوا قدر الإمكان.

يعلمنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نفس معنى هذه الحكمة التي صاغها الشيخ ابن عطاء هنا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، فهل معنى هذا أن نيأس؟ لا طبعًا، ليس هذا معنى الكلام، وإنما معنى الكلام أنه لا ينبغي أن تعتمد على العمل بل على الرحمة الإلهية.

ومن حسن الاعتماد على الله ألا تنظر إلى عملك الصالح على أنه كبير أو خطير، يعني أنني إذا وقفت ساعة بين يدي الله سبحانه وتعالى أو أنفقت في سبيل الله نفقة معتبرة، فلا يصح أن أبدأ بالشعور بالفرح بنفسي وكأن لي دالة على الله والعياذ بالله.

فلا تعتمد على العمل الصالح إن عملته. وإن حدث العكس وأخطأت، فلا يصح أن تتساءل كيف يقبل الله تعالى توبتي وقد أخطأت؟ لا تشكّ في سعة رحمة الرحمن. في كل الأحوال لابد أن تكون مؤمناً يرجو رحمة الله ويعتمد عليها ويتعلق بها.

ومن الانحرافات في هذا الباب أن يتعدى الرجاء إلى (الأمن). وهذا

يعني أن يأمن الإنسان من العقاب. { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}، وهذا قد ورد في شأن بعض الأمم من قبلنا وقد كانوا يظنون أنهم شعب الله المختار أبداً، بغض النظر عن عملهم، كما يظن بعض المسلمين اليوم أنهم ما داموا مسلمين فمهما فعلوا فلا يهم ولا يضر، وقد قال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.

فلا ينبغي للرجاء أن يصبح أمناً أو توهم وجود ضمان مع الله سبحانه وتعالى، ليس هناك ضمان إلا في الجنة، وأبو بكر رضي الله عنه كان يقول: (لو أن إحدى قدمي في الجنة، ما أمنت مكر الله). لابد أن يكون هناك توازن بين الرجاء وبين معنى آخر، ألا وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى، وهذه كلها من معانى التوبة، فأنت تتوب إلى الله سبحانه وتعالى ليس فقط رجاء وإنما أيضًا خوفًا.

والكافر يقنط ويقول لن يغفر الله لي، فيمتد في كفره وهذا أيضاً من الانحرافات ومن الأخطاء. والله تعالى يقول: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، فالمجرم هو الذي يرفض هذا العرض الكريم بالتوبة والإصلاح. والمطلوب هنا هو أن يكون هناك توازن بين الرجاء وبين الخوف.

إذن، أول خطوة في هذا الطريق تصحيح الرجاء في الله. تبنا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وبرئنا من كل ذنب، وبرئنا من كل تقصير، وبرئنا من كل دين يخالف دين الإسلام، نشهد أن لا اله إلا الله ونشهد أن محمدًا رسول الله، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.