مقدمة

 

الترجيح بين الأقوال المختلفة في المسائل الفقهية من الحاجات المتكررة للمشتغلين بالفقه الإسلامي. وإذا كانت المقارنة بين الخيارات المختلفة بوجه عام انعكاساً لترتيب الأولويات ومعايير الأفضلية عند الإنسان، فالاختيار بين الأقوال الفقهية المختلفة لا يخرج عن ذلك المثال. ولكن من نعم الله تعالى على المسلمين أن مراتب الأعمال والأحوال وأفضلية بعضها على بعض ليست متروكة للهوى أو التشهي، ولكن لها نظام محكم دلت عليه نصوص الذكر الحكيم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، مما اصطلح على تسميته بفقه الأولويات، ومما ينبغي أن يكون نبراساً للفقيه ومعياراً في اختياراته بين الأقوال المختلفة التي تعرض له في مسألة ما. وفي هذا البحث مناقشة لمفاهيم أصولية هي في نظرنا أسس لفقه الأولويات، وتطبيق لها على مسائل اختلفت فيها الأقوال واحتجنا فيها إلى ترجيح قول منهم.

أما اختلاف الأقوال نفسه فليس غريبًا على الفقه الإسلامي بل هو من طبيعته اللازمة التي لا مفر منها. ويعلم أهل هذا العلم أن الشريعة مبناها وأساسها على مجموعة من الثوابت المحكمات التي أجمع عليها العلماء قديماً وحديثاً. ولكن في ما دون المحكمات فإن المسائل الفقهية التفصيلية يرد فيها دائماً شكل أو آخر من أشكال الخلاف بين العلماء سواء حول ثبوت أدلتها أو دلالات ألفاظها، مما يؤدي إلى تعدد الأقوال فيها.

والبحث في معايير الترجيح والاختيار بين الأقوال الفقهية المختلفة –وهو موضوع هذا البحث- يتعلق في نظرنا أولًا بالبحث في أسباب اختلاف تلك الأقوال من الناحية الأصولية المنهجية. وفهم سبب الخلاف -أصولياً- يعين على تحديد معايير الترجيح ومنهج الاختيار السديد بين الأقوال. ويحضرني هنا كلام أبي الوليد بن رشد رحمه الله عن أهمية “فهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء” في صحة الاجتهاد في النوازل – على حد تعبيره، فقد كتب يقول عن كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد:

قصدنا في هذا الكتاب هو إثبات المسائل المشهورة التى وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها … فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة من النوازل”.[1]

والأسباب المنهجية التي تؤدي إلى خلافات فقهية كثيرة ومتنوعة، ولكننا لغرض هذا البحث اخترنا الأسباب الثلاثة التالية، والتي نظنها تغطي -منهجياً- أغلب مساحات اختلاف الأقوال في الفقه الإسلامي:

 

اقرأ الورقة كاملة

 

[1] الوليد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت: دار الفكر، بدون تاريخ، ج 2، ص 290.