مراجعة لكتاب ” نقد نظرية النسخ”، بقلم: محمد صلاح قاسم، نُشر على موقع إضاءات

الجواب يبدو من العنوان. هذا المثل الشهير ينطبق تمامًا على الكتاب الذي نحن بصدده الآن. بخط بارز على الواجهة الأمامية للكتاب، عنوان رئيس من ثلاث كلمات هي «نقد نظرية النسخ»، وهو عنوان كفيل بجذب انتباه – وكذلك تحفز – أغلب من لهم اهتمام بالفكر الإسلامي وقضاياه، وحتى من عامة المتدينين الذين رسَّخ الفقه التقليدي في عقولهم وجود قضية شرعية ثابتة لا تحتمل كثيرَ جدل، هي قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم والسنة النبوية. إذًا فالعنوان الرئيس واضح ومباشر في عرض القضية مدار البحث.

لكن بخط أقل حجمًا من العنوان السابق، كُتب العنوان الفعلي للكتاب وهو «بحث في فقه مقاصد الشريعة». تلك هي الغاية التي يرمي إليها الكاتب بخوضه في هذا المبحث الشائك، فهو كما سنبين، يريد من خلال نقده  لقضية النسخ الراسخة في التراث، إعلاء طريقة للتعامل مع النصوص الشرعية بالتركيز على أهدافها وغاياتها، بدلًا من الاكتفاء بالوقوف على ظاهرها.

يقع الكتاب في حوالي 140 صفحة من القطع المتوسط، والناشر هو «الشبكة العربية للأبحاث والنشر». وهو يتكون من مقدمة، و5 فصول، منها فصلان كاملان والمقدمة – حوالي نصف الكتاب – يمهد بها الكاتب للمبحث الرئيس، وهو نقد نظرية النسخ. وفي آخر الكتاب فصل مهم مكون من 8 صفحات، فيه حوالي 30 خلاصة تطبيقية على أرض الواقع مستمدة من تنظيرات الكاتب في هذا المبحث.

الكاتب هو د. جاسر عودة، عضو المجلس الأوروبي للإفتاء، والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، وزميل مجمع الفقه الإسلامي بالهند. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة التشريع الإسلامي من جامعة ويلز البريطانية، وعمل محاضرًا في عدد من الجامعات حول العالم،  ويعمل حاليًا رئيسًا لمعهد المقاصد، وهو مؤسسة علمية بحثية، تقيم أنشطة تعليمية وبحثية بالولايات المتحدة، وبريطانيا، وماليزيا، وإندونيسيا.

نقض الثنائيات

شهد الجدال حول النسخ استقطابًا بين غالبية عظمى خاصة من الفقهاء والأصوليين القدامى، تؤيد وجود النسخ مطلقًا، وتعتبره من ثوابت الدين، وأقلية – أكثرها من علماء العصر الحديث – تراجع النظر في تلك القضية، وتتفاوت في درجة تعاطيها مع الأمر بين الإنكار التام للقضية، أو تضييق مساحتها، أو إثباتها مع إعمال أوجه جديدة للنظر.

في المقدمة يبدأ الكاتب طرحه عن قضية النسخ، بنقد الفكرة الشائعة عن ثنائيات منطقية يختلف الناس بينها، دون اختيارات وسطى. إما الأبيض، وإما الأسود، مع إغفال درجات الرمادي التي تكاد لا تعد ولا تحصى. ويسميها الكاتب (مغالطة الثنائيات الحتمية الكاذبة). ضرب الكاتب أمثلة عديدة، منها ثنائية العلم والدين، وجدلية العقل أم النقل … إلخ. وهو يرى أن مواقف وسيطة عديدة أولى بالاتباع من التمسك بأحد الطرفين، فلا تناقض جذريًّا بين العلم والدين أو بين العقل والنقل، مهما اختلفت الأفهام في درجة الجمع بين طرفي كل ثنائية.

ثم انتقل الكاتب إلى نماذج من التراث الإسلامي لتلك الثنائيات، كمثال عمل أهل المدينة، والذي يعتقد المالكية بحجيته الفقهية التامة، بينما ينكر الشافعية ذلك، في حين كان منهج ابن تيمية وابن القيم – وهما من الحنابلة – أوجه من هذا وذاك، فاعتبرا عمل أهل المدينة بمثابة رواية جماعية عن النبي الكريم، قد تكون أوثق من أحاديث الآحاد.

مدخل المقاصد الشرعية

في الفصل الأول من الكتاب يبدأ الكاتب شرح بعض المصطلحات المهمة لعرض فكرته. كانت البداية بمقاصد الشريعة، والتعريف المختار هو المعاني التي قصد الشارع تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، ويستنبطها العلماء المجتهدون من النصوص. ثم بدأ الكاتب بسرد تفاصيل أكثر عن مقاصد الشريعة، كتصنيفها إلى عامة وخاصة وجزئية. وأورد بعض تعريفات علماء التراث كالجويني والقرافي والعز ابن عبد السلام وغيرهم للمقاصد، ومساحتها الاعتبارية في الشرع الإسلامي.

أورد الكاتب نماذج من زمن الرسول تعزز حجية البحث في مقاصد النص بالرأي الغالب، منها واقعة بني قريظة الشهيرة، عندما قال النبي – عليه الصلاة والسلام – لصحابته إنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة. حينها لم يصلِّ البعض إلا بعد الوصول، بينما اعتبر الآخر أن مقصد الرسول كان الكناية عن الإسراع، فصلوا في الطريق وأسرعوا، ولم يعنِّف النبي أيًّا من الفريقَيْن.

ولابن القيم رأي في تلك المسألة امتدحه الكاتب لوجاهته، وهو أن من نظروا في المقصد، فصلَّوا في الموعد، وأسرعوا، حازوا الفضيلتَيْن، الصلاة في وقتها، وتنفيذ أمر الرسول بالإسراع. طبقًا لكلام ابن القيم، فالنظر في المقاصد أولى من التمسك بظواهر النص، وإن كان الجانبَان على خير.


يمكن قراءة المقال كاملًا على: موقع إضاءات القيم.