هذا البحث محاولة لتفعيل علم المقاصد الشرعية في البحث الأصولي والاستدلال الفقهي عن طريق اقتراح المقاصد الشرعية كمناط للحكم الشرعي يدور معها وجوداً وعدماً حسب تغير الأحوال. واعتبار المقصد المستنبط من الأمر الشرعي وإناطة الحكم به عمل اجتهادي ظني، ولكنّ له أصولاً من فهم الصحابة رضي الله عنهم للنصوص وإقرار النبيصلى الله عليه وسلم لهم. فقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما:”قال النبيصلى الله عليه وسلملنا لما رجع من الأحزاب:لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة،فأدرك بعضهم العصر في الطريق،فقال بعضهم:لا نصلي حتى نأتيها،وقال بعضهم:بل نصلي لم يرد منا ذلك (وفي رواية: إنما أراد الإسراع، وفي رواية مسلم: “وقال آخرون:لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول اللهصلى الله عليه وسلموإن فاتنا الوقت”[1]).فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم”.[2]
وهذا الحديث أصل واضح في جواز استنباط المقصد من النص الشرعي بالظن الغالب بل وجواز إدارة الحكم العملي مع هذا المقصد المستنبط على وجه قد يخالف العلة الظاهرة في هذا النص.[3] فالصحابة الذين اجتهدوا ففهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد إلى الإسراع وليس إلى عين الصلاة في بني قريظة خالفوا ظاهر الأمر بصلاتهم في الطريق، والذين أصروا على الصلاة في بني قريظة ولو بعد وقت الفريضة استمسكوا بالعلة الظاهرة في الأمر وهي الوصول إلى بني قريظة ووكلوا القصد منها إلى الله ورسوله، وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقين دليل على جواز المنهجين.
وقد اختلفت تعليقات العلماء على هذا الحديث، فجمهور العلماء رجحوا عمل الفريق الذي اعتبر مقصد الأمر، ولخص ابن القيم رأيهم بقوله: “كل من الفريقين مأجور بقصده إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت .. وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر“.[4] وعلى هذا فابن القيم جعل الإسراع وهو المقصد الذي فهمه بعض الصحابة من سياق الحديث أمراً شرعياً في نفسه يجب الالتزام به، وجعل الذين تمسكوا بظاهر الأمر فقط معذورين باجتهادهم. أما الظاهرية فقد عبر عن رأيهم ابن حزم بتعليقه: “ولو أننا حاضرون يوم بنيقريظة لما صلينا العصر إلا فيها ولو بعد نصف الليل“،[5] وهو رأي يتفق مع منهجهم الأصولي في الأخذ بظواهر النصوص ولو على حساب مقاصدها وسياقها.
القصد والمقصد لغة مشتقان من الفعل قصد، والقصد هو استقامة الطريق والعدل والتوسط وإتيان الشيء يقال قصده وإليه يقصد يعني الاعتزام والتوجه نحو الشيء، ومن هنا جاء المعنى الاصطلاحي للمقصد الشرعي أي المعني التي قصد الشارع إلى تحقيقه من وراء الحكم.[6]والمعاني والحكم التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء التشريع قسمها العلماء إلى مستويات ثلاثة: عامة وخاصة وجزئية.[7] فالمقاصد العامة هي المعاني التي لوحظت في جميع أحوال التشريع أو أنواع كثيرة منها، كمقاصد السماحة والتيسير والعدل والحرية.[8] وتشمل المقاصد العامة المصالح الضرورية التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، مثل حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والعرض.[9] والمقاصد الشرعية الخاصة هي المعاني التي لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصد الردع في باب العقوبات، ومقصد منع الغرر في باب المعاملات المالية، ومقصد عدم الإضرار بالمرأة في باب الأسرة. وقد تكون المقاصد جزئية بمعنى الحكم والأسرار التي راعاها الشارع في حكم بعينه متعلق بالجزئيات،[10] كمقصد توخي الصدق والضبط في مسألة عدد الشهود وأوصافهم، أو مقصد رفع الحرج في الترخيص بالفطر لمن لا يطيق الصوم، أو مقصد الطهارة في غسل النجاسات.
وكثيراً ما تعرض المقاصد على أنها هرم منتظم من الأهداف على رأسه المقاصد العامة (وهي بدورها مرتبة عند كثير من العلماء ترتيباً معيناً)، وتتفرع عنها بدورها المقاصد الخاصة والجزئية. ورغم أهمية الأولويات نظرياً وعملياً إلا أنه يصعب استقراء مقاصد الشريعة كلها واستقصائها في مستويات هرمية، فضلاً عن أن يُبنى على هذه الهرمية نتائج فقهية بشكل منتظم. فأبو حامد الغزالي مثلاً قد رتب المقاصد العامة وضروراتها الشرعية ترتيباً اشتهر بعد ذلك وتابعه عليه كثير من الفقهاء، وهو حفظ الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال.[11] ثم بنى على ذلك الترتيب نتائج فقهية فقال: “عند تعارض مصلحتين ومقصودين .. يجب ترجيح الأقوى”، ومثّل لذلك بإباحة شرب الخمر تحت الإكراه، وهو متوافق مع تقديم حفظ النفس على حفظ العقل.[12] ولكن أبا حامد ناقض الترتيب حين لم يبح الزنا تحت الإكراه[13] رغم أن النسل متأخر عن النفس في ترتيبه المذكور. والآمدي قد وضع بعض الأولويات الفقهية العملية مثل تقديمه لحفظ الدين على النفس[14] رغم أن هذا مناقض – مثلاً – لإباحة النطق بكلمة الكفر تحت الإكراه، وتأخيره لمقصد حفظ المال عما سواه رغم أن “من قتل دون ماله فهو شهيد”.[15] ولعل هذه الإشكالات هي التي أدت إلى عدم تصريح كثير من العلماء بترتيب محدد في مسألة المقاصد الضرورية وعدم بناء أحكام محددة على ذلك الترتيب، مثل الشاطبي[16] والرازي[17] والقرافي[18] والبيضاوي[19] وابن تيمية.[20] وهناك اتجاه معاصر يرى أن المقاصد بأنواعها ومستوياتها تمثل دوائر متداخلة ومتقاطعة، كما لاحظ الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مثلاً،[21] وهي بالتالي ليست منظومة هرمية تنقسم فيها المقاصد إلى أعلى وأدنى وإنما منظومة دائرية تتشابك فيها علاقات المقاصد المختلفة بعضها ببعض،[22] وهو الرأي المختار.
أما العلة فهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذاً من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض يقال اعتل فلان إذا حال عن الصحة الى السقم.[23] وأما في الاصطلاح، فهناك من يرى أن العلة هي المعنى الذي شرع الحكم لأجله،[24] وهذا التعريف يقترب بتعريف العلة من تعريف المقصد، ولكنّ العلة كما يراها جمهور الأصوليين هي الوصف الذي جعله الشارع “مناطاً لثبوت الحكم بناء على أنه مظنة لتحقيق المصلحة المقصودة للشارع من شرع الحكم”.[25] وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات ولكنها تدل على نفس المعنى فيقال لها السبب والأمارة والداعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر.[26]وإناطة الحكم بالعلة يعني ارتباطهما، والقاعدة الأصولية المعروفة تقول: الحكم الشرعي يدور مع علته وجوداً وعدماً.[27] فمثلاً، ذكر الفقهاء أن علة العدة الطلاق، وعلة رخصة الفطر السفر أو المرض، وعلة جمع الصلاة السفر، وعلة ضم الحبوب أوالمعادن بعضها إلى بعض في الزكاة اتفاق الأسماء، وعلة تحريم الخمر الشدة في الشراب، وعلة ربا الفضل الطعم، وعلة رفع الإجبار في النكاح الثيوبة، وعلة المماثلة في المهر المماثلة في العصبة – على خلاف بينهم في بعض هذه العلل. فإذا غابت علة من هذه العلل غاب معها حكمها وإذا وجدت العلة وجد الحكم.
وقد اشترط جمهور الأصوليين في الوصف الذي يصلح علة شروطاً مردها إلى أربعة شروط، وهي الظهور (أي أن يكون واضحاً يمكن إدراكه والتحقق من وجوده أو عدمه)، والانضباط (أي محدوداً لا يختلف باختلاف موصوفه ولا باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال)، والتعدّي (أي ألاّ يكون خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً أو لأحد أصحابه)، والاعتبار (أي ألاّ يكون الشارع قد أورد أحكاماً تدل على عدم الاعتداد به).[28]
انتقد الشيخ الطاهر بن عاشور علم أصول الفقه واصفاً إياه “بالغفلة عن مقاصد الشريعة”،[29] وكتب أن “معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكن العارف بها من .. تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول .. فهم قصروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عليها الألفاظ؛ وهي علل الأحكام القياسية”.[30] وكتب الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي أن “علماء الأصول من لدى الشافعي لم يكن يتجهون إلى بيان مقاصد الشريعة العامة .. فكان هذا نقصاً واضحاً في علم أصول الفقه، لأن هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه”.[31] وكتب الشيخ عبد الله دراز في مقدمة شرحه لموافقات الشاطبي أن الفقهاء أغفلوا علم أسرار الشريعة ومقاصدها إغفالاً،[32] “فلم يتكلموا عن مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس، عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها .. مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جُلبت إلى الأصول من علوم أخرى”.[33] وقد أرجع الدكتور حسن الترابي هذا القصور الذي شهده الفقه الإسلامي إلى أن الفقهاء “لم يكونوا أولِي أمر مسؤولين عن رعاية مصالح الأمة وسياستها بالشرع فلم يستعملوا أصول المصالح بعد أن قرروها وآلت إلى التعطيل الكامل”.[34]
ولكن يبدو لي أن هذا النقد يصدق فقط على عدم إعمال المقاصد في استنباط الأحكام، أي بناء الأحكام الشرعية عليها، فلم يكن للمقاصد تأثير يذكر في تقرير الأحكام الشرعية، واكتفى الفقهاء باعتبار العلل والقياس عليها والتأصيل لها. ولكن هذا النقد لا يبدو لي أنه يصدق على مناقشة العلماء للمقاصد نفسها على اعتبار أنها المصالح والمعاني التي أتت الشريعة لتحقيقها. فقد تحدث الفقهاء على اختلاف مشاربهم عن معانى المقاصد حسب التعريفات المذكورة سابقاً، وإن اختلفت ألفاظهم ومسمياتهم، فذكروا قصد الشارع بالحكم،[35] وغرض الشارع،[36] وما أراد الشارع بالحكم،[37] ومناسبة القياس،[38] والحكمة من الحكم،[39] ومصالح العباد،[40] بل وأطلق أبو حامد الغزالي على المقاصد الضرورية اسم المصالح المرسلة.[41] ولكنّ هذه المصطلحات كلها لم تُنط بها الأحكام الشرعية ولم تستخدم عملياً فيما بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم في الاستنباط أو القياس اللهم إلا في بعض الأغراض الفقهية المحدودة مثل الترجيح بين العلل إذا تعارضت، كما ذكر الآمدي،[42]ومنع التحيل، كما ذكر ابن القيم والشاطبي،[43] والقليل من الفتاوى المتناثرة في ثنايا كتب المذاهب المختلفة.[44]
وهذه التطبيقات المحدودة للمقاصد الشرعية في تقرير أحكام الفقه افتقدت التأصيل المنهجي النظري، فلم يحدث تاريخياً أن قدمت المقاصد الشرعية كأصول قطعية تتفرع عنها وتخدمها أحكام الفقه التفصيلية، اللهم إلا ما كتبه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في القرن الخامس الهجري في كتابه الفذ “غِياث الأمم في التياث الظلَم”،[45] وفيه يعرب عن خوفه من انقراض حملة الشريعة ونقلة المذاهب في يوم من الأيام، ثم يفترض جدلاً في الجزء الأخير من الكتاب أن هذا قد حدث فعلاً، وبناء على هذا الافتراض الجدلي أوجد الإمام الجويني لنفسه مجالاً للإبداع في الاجتهاد دون التقيد بمذهب بل ودون التقيد بظواهر النصوص الجزئية المتعارضة التي “تختلف فيها الأفهام وتختلف في توثيقها الآراء”. ثم بنى الجويني أحكام الشريعة في أبوابها المختلفة من الأساس على “أصول قطعية”، و”المحكمات التي لا يتطرق إليها تعارض الاحتمالات وطرق التأويلات”،[46] على حد تعبيره، وأوضح أن منهجه كان استقراء هذه الأصول من دراسته الواسعة لمجموع النصوص والآراء، ثم قال: “نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحى والأسّ من المبنى، ونوضح أنها منشأ التفاريع، وإليه انصراف الجميع”.[47] وهذه الأصول والقواعد بناها على المقاصد في أبواب الفقه، مثل مقصد تراضي الملاّك في معاملات البيع، ومقصد رفع ضرر المحتاجين في باب الزكاة، ومقصد التيسير في باب النجاسات،[48] وغيرها. ومنهج الإمام الجويني في هذا الكتاب القيم يبدو لي كخطة تجديد شاملة وعميقة في مناهج الاجتهاد، تقوم على استقراء كل ما هو متاح من النصوص والآراء والمذاهب استقراءاً شاملاً، ثم استنتاج مقاصد وأصول قطعية تكون حاكمة على عملية الاجتهاد ببعديها الفقهي الاستنباطي والحديثي النقدي.
وهذا التجديد لنظريات الاستنباط الفقهي عن طريق المقاصد قد ظهر حديثاً في صورة مقترحات قيمة في كتابات الأصوليين بدأت بالنقد الذي ذكر آنفاً، وانتهت بمحاولات منهجية لبلورة هذا التجديد للأصول عن طريق المقاصد. فقد اقترح الدكتور حسن الترابي ما أسماه “القياس الواسع”، وهو: “أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كانت الظروف والحادثات الجديدة، وهذا فقه يقربنا من فقه عمر”.[49] وأصّل الدكتور طه العلواني لما أسماه بفقه المقاصد الذي: “ينطلق من منهج استقرائي شامل يحاول الربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام دلت على اعتبار الشرع له الكثير من الأدلة، وتضافرت عليه العديد من الشواهد، وبذلك يعتبر هذا القانون الكلي مقصداً من مقاصد الشريعة، فيتحول إلى حاكم على الجزئيات قاض عليها بعد أن كان يستمد وجوده منها”.[50] ودعا الشيخ ابن عاشور إلى “أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية”.[51]
وعلى ضوء هذه الأفكار، يقترح هذا البحث إضافة لقاعدة دوران الأحكام الشرعية مع عللها لتصبح كالتالي:
تدور الأحكام الشرعية العملية مع مقاصدها وجوداً وعدماً كما تدور مع عللها وجوداً وعدماً
وإناطة الحكم الشرعي بالمقصد منه كما تقترح هذه القاعدة تسهم في مرونة الفقه وقدرته على استيعاب تغير الظروف والأعراف، كما تحد من دعاوى النسخ لبعض النصوص المحكمة لمجرد تعارض ظواهرها وتناقض عللها – كما تفصّل المطالب التالية. ولكن هذه القاعدة تثير سؤالين منهجيين هامّين يجاب عنهما أولاً:
السؤال الأول: هل يصلح المقصد كوصف يتعلق به الحكم كما هو الحال في العلة التي يتفق على حجيتها أغلب الفقهاء؟ أم أن حاله كحال الحكمة التي لا يؤيد حجيتها جمهور الفقهاء؟
والسؤال الثاني: كيف نفرق بين الأحكام التي تصلح لأن تناط بمقاصدها المستنبطة والأحكام التي قصد بها التعبد الحرفي المحض دون النظر إلى مسألة المصالح والحِكَم؟
هل يصلح المقصد كوصف يتعلق به الحكم؟
اعترض جمهور الأصوليين على أن تكون الحكمة من الحكم الشرعي مناطاً للحكم، ذلك لأنها تفتقد من شروط الوصف الذي يصلح أن يناط به الحكم شروط الظهور والانضباط وعدم التخلف عن الحكم.[52] وفيما يلي أمثلة يضربها من يمنع التعليل بالحكمة من الأصوليين للتدليل على هذه الموانع الثلاثة، أعرضها على هيئة مثالين لكل مانع.
المثال الأول (مانع الخفاء): عدة المطلقة معللة بالطلاق، والطلاق ظاهر منضبط، ولكن حكمة العدة قد تخفى، فمن قائل إنها براءة الرحم، ومن قائل إنها فرصة للصلح بين الزوجين، ومن قائل إنها فترة نقاهة للمرأة قبل زواج جديد. وعلى هذا فلا يصح مثلاً – باتفاق العلماء – إسقاط العدة عن الآيسة مثلاً ليقينها من براءة رحمها، أو عن الزوجة المطلقة ثلاثاً لانعدام فرصة الصلح.
المثال الثاني (مانع الخفاء): ربا الفضل حكم معلل بعلل محددة يمكن استنباطها من الحديث الذي ورد في بابه،[53] ولكن حكمة ربا الفضل تفتقد شرط الظهور إذ صرح كثير من العلماء بعدم اهتدائهم لها، إلا بعض العلماء الذين رأوا أن الحكمة هي سد ذريعة ربا النسيئة. يقول ابن القيم: “أما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما، والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جداً، فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة”.[54]
المثال الثالث (مانع الانضباط): رخصة الفطر معللة بنص القرآن بالمرض أو السفر، وهي علة – في رأي جمهور الأصوليين – ظاهرة منضبطة. ولكن حكمة رخصة الفطر في رمضان، التي هي رفع المشقة، تفتقد شرط الانضباط لأنها: “تختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال، فالراكب على الدابة يجد من المشقة ما لا يجده راكب الواسطة الحديثة .. والمسافر في الصيف وتحت وهج الشمس مشقته تختلف بكثير عن المسافر أيام الربيع .. ويدل على ذلك أنه لم يرخص للحَمّال في الفطر في الحضر مع أنه يجد من المشقة ما لا يجده المسافر في الطائرة”.[55]
المثال الرابع (مانع الانضباط): حرمة الخمر معللة بما أطلق عليه العلماء الشدّة في الشراب،[56] ولكن الحكمة وهي إيقاع العداوة والبغضاء وكون الخمر سبباً للصد عن ذكر الله[57] لا تنضبط فلا يمكن القياس عليها.
المثال الخامس (مانع تخلف الحكم عن الحكمة): وجوب الحد على الزاني معلل بالزنا، وهو ظاهر منضبط، ولكن الحكمة منه – كما يرى كثير من الأصوليين – منع اختلاط الأنساب، وهذه الحكمة تلزم التخلف في بعض الصور: “فلو أخذ إنسان صبياناً صغاراً إلى حيث لم يرهم آباؤهم وفرّقهم حتى صاروا رجالاً لم يستطع آباؤهم التعرف عليهم فقد تحققت الحكمة وهي اختلاط الأنساب، فينبغي القول بوجوب الحد على آخذهم، وهذا لم يقل به أحد من الفقهاء”.[58]
المثال السادس (مانع تخلف الحكم عن الحكمة): حرمة الزواج من الأم من الرضاعة معللة بالرضاعة المشبعة، وهي ظاهرة منضبطة، والحكمة من ذلك هي – كما يرى بعض الفقهاء – الجزئية، أي أن الطفل قد أخذ من المرأة التي أرضعته جزءاً منها، ولكن هذه الحكمة تتخلف في صورة طفل نُقل له – مثلاً – دم من امرأة دون أن يرضع منها، وهو نوع من الجزئية لا يحرّمها عليه اتفاقاً.[59]
ورغم أن الحكمة من الحكم لا تختلف عن المقصد من الحكم عند كثير من الأصوليين،[60] إلا أنه يبدو لي أن هناك فارقاً معتبراً بين ما يُقصد بالحكمة وما يُقصد بالمقصد، وهذا الفارق له أثره في مسألة التعليل. فالحكمة مصلحة من المصالح التي تترتب على الحكم، أما المقصد فهو مصلحة ينص الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنها هي المقصودة من الحكم، أي من أجلها شرع الحكم أصلاً ولولاها ما شرع. وأرى بناء على ذلك أن الحكمة قد تختلف عن المقصد، وقد تكون جزءاً من المقصد، وقد تساوي المقصد، وأن النقد الموجه للتعليل بالحكمة وإناطة الحكم بها – كما في الأمثلة السابقة – لا يلزم أن ينطبق على التعليل بالمقصد.
أما عدة المطلقة وربا الفضل فالحكمة فيهما خفية، فيلزمنا أن نعتبر أن المقصد منهما التعبد. يقول ابن القيم عن ربا الفضل: “ويلزممن لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم رباالفضل تعبداً محضاً لا يعقل معناه كما صرح بذلك كثير منهم“.[61] وأما رخصة الفطر – وعلتها المرض أو السفر وحكمتها رفع المشقة – فالمقصد منها ليس رفع المشقة، بل رفع الضرر. وعليه، فلا يرخص بالإفطار لمن يجد مشقة في الصوم إلا أن تتعدى المشقة إلى الضرر بهذا الصائم، ولهذا شرع الإفطار في غير صور المرض والسفر مثل الجهاد والإرضاع، كما مر سابقاً. وأما حرمة الخمر التي عللها العلماء بالشدّة في الشراب فحكمتها منع العداوة والبغضاء والصد عن سبيل الله، ولكن المقصد منها هو حفظ عقول الناس. وهذا المقصد أفضل من العلة المذكورة كأداة للقياس لأنه يحرم بناء عليه كل ما يذهب العقل من مشروب ومأكول ومحقون ومشموم وغيره، كما مر سابقاً.
وأما وجوب الحد على الزاني فهو معلل بالزنا، وحكمته التي ذكرها الفقهاء وهي منع اختلاط الأنساب قد تتخلف عن الحكم. ورغم أن منع اختلاط الأنساب مصلحة معتبرة في الشرع، إلا أن قضية الزنا في الإسلام ليست قضية اختلاط أنساب فقط، وإنما هي قضية ذات أبعاد أخلاقية واجتماعية متعددة. والمقصد من حد الزنا ليس المنع من اختلاط الأنساب فحسب، وإنما الردع عن الزنا بكل مفاسده. فإذا استُكرهت امرأة على الزنا مثلاً أو كانت لا تفقه معناه، انعدم قصد الردع ولم يُقم عليها الحد – كما درأ عمر رضي الله عنه الحد عن المرأتين اللتين استُكرهت إحداهما على الزنا وكانت الأخرى أعجمية لا تفقه.[62] وحرمة الزواج من الأم من الرضاعة معللة بالرضاعة المشبعة وحكمتها – كما ذكر الفقهاء – الجزئية وهي قد تتخلف عن الحكم، ولكن المقصد من هذا التشريع الذي لولاه ما شُرع الحكم ليس قضية الجزئية وإنما هو – في غالب ظني – تبجيل واحترام رابطة الأمومة التي تنشأ بين المرضعة والطفل الذي أرضعته، وروابط الأخوّة التي تنشأ كذلك بين هذا الطفل وإخوته من الرضاعة، وهو مقصد لا يتخلف عنه الحكم أبداً كما تخلف عن الحكمة.
والتعليل بالمقاصد ليس مطروحاً هنا كبديل عن التعليل بالعلل المنضبطة الظاهرة، وإنما التعليل بالمقاصد إضافة للتعليل بالعلل وتوسيع لمفهومها. فإن الشارع الحكيم قد أناط كثير من شرائعه بالعلل المنضبطة الظاهرة، إذ علم سبحانه وتعالى عدم ظهور المقاصد أحياناً وصعوبة القياس عليها في حق كثير من المكلفين. ولكن سعة الإسلام وشموله لبعدي الزمان والمكان وعقلانية منهجه التشريعي تلزمنا أن نوسع دائرة القياس لتشمل التعليل بالمقصد إذا غلب على الظن أنه هو المصلحة التي شرع من أجلها الحكم.
كيف نفرق بين الأحكام التي قصد بها التعبد وغيرها؟
أجمع المسلمون أن في الشرع أحكاماً يلزم المسلم اتباعها تعبداً، مثل عدد ومواقيت الصلوات وهيئاتها وأذكارها المخصوصة، أي أنه يلزم المسلم عين ما ورد فيها عن الشارع بصرف النظر عن الحِكَم والعلل وبصرف النظر عن اختلاف الزمان والأحوال. ولا ينكر أصل الأحكام التعبدية في الإسلام إلا من كان في تصوّره الإيماني خلل كبير.
ولكنّ هناك خلافاً بين الأصوليين في مجال هذه الأحكام التعبدية ومنهج التعرف عليها، وهو خلاف يبدو لي أنه ناتج عن خلافهم في مناهج التعليل. فأما من أنكر أن للأحكام علل كالظاهرية فهم يعتبرون أن كل الأحكام التي وردت عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعبديات، على المسلم اتباع ظواهرها وصورها بغض النظر عن ما يبدو للعقل من عللها أو مقاصدها، ولا يقبلون أن يقاس على أي من الأحكام غيرها. يقول ابن حزم: “مسألة: ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي، لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان”.[63] ويقترب من منهج الظاهرية هذا من لا ينكرون التعليل للأحكام ولا القياس عليها ولكنهم لا يتوسعون في التعليل ولا القياس تورعاً، فلا يخالفون ظواهر النصوص بحال، ولا يكادون يقيسون إلا ما ثبت علته نصاً.
وهناك العلماء الذين يعللون الأحكام – على اختلاف مسالكهم في التعليل – إلى حيث انتهت مدارك عقولهم، فإن قصرت عقولهم عن إدراك علة الحكم ردوا الأمر إلى الله تعالى إيماناً وتصديقاً واعتبروا التكليف عبادة محضة، أي المقصود منها الاتباع والتعبد، وهذا رأي أغلب الأئمة المجتهدين.[64] فمثلاً، يقول الشافعي: “التعبد وجهان، فمنه تعبد لأمر أبان الله عز وجل أو رسوله سببه فيه أو في غيره من كتابه أو سنة رسوله فذلك الذي قلنا به وبالقياس فيما هو في مثل معناه، ومنه ما هو تعبد لما أراد الله عز شأنه مما علمه .. ولم نعرف في شيء له معنى فنقيس عليه وإنما قسنا على ما عرفنا”.[65] وهذه الطائفة من الأحكام التي قُصد بها التعبد المحض لا يجوز تبديلها بالرأي باتفاق العلماء. يقول ابن العربي مثلاً: “الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو يقع التعبد بمعناها، فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها، وإن وقع التعبد بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه”.[66]
ولكن السؤال هنا هو كيف نفرق بين الأحكام التي قصد بها التعبد المحض والأحكام التي يجوز فيها اعتبار المعنى؟ فالكثير من أحكام الشريعة مشكَل لا نستطيع القطع إذا كان الأصل فيه الاتباع المحض أو التعليل بالعلل أو المقاصد، مثل العديد من عقود البيع ومسائل الزكاة.[67]إن أبا الوليد ابن رشد اتهم بعض الفقهاء بادعاء التعبد في بعض الأحكام كوسيلة للانتصار في المناظرات، فقال: “وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم فتأمل ذلك فإنه بيّن من أمرهم في أكثر المواضع”.[68] والرجوع إلى ما أدخله الفقهاء على اختلاف.