كان قارون أحد الأركان الأساسية للمنظومة الفرعونية المستبدة. فرعون كان رأس الاستبداد السياسي،

وكان يقول: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، وهامان كان – حسب أبحاث تاريخية معاصرة – زعيم الكهنة في معبد الشمس وبالتالي فقد كان رأس الاستبداد الديني الذي يُخضع الدين لسلطان الفرعون بل ويؤله فرعون نفسه باسم الدين ويساعده في أكاذيبه.{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} أما قارون فبغى على قومه وخرج عليهم في زينته وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}، وكان رأس ما نسميه هنا الاستبداد الاقتصادي.

مر معنا وحدتان أساسيتان في منظومات الاستبداد التي نحاول أن نفهمها حتى يمكن أن نفككها: الاستبداد السياسي الذي يحتكر فيه ناس من الناس القرار السياسي ويسطون على إدارة الشأن العام فقط لصالحهم الخاص وكراسيهم الزائلة ومصالح دوائرهم الضيقة، ثم الاستبداد الديني الذي أيضاً يحتكر فيه ناس من الناس الحديث باسم الدين ويحرفون الشريعة ويضيعون معانيها ومقاصدها أيضاً لصالحهم الخاص وألقابهم الزائلة ومصالح مؤسساتهم الضيقة. والاستبداد السياسي لا يستمر دون استبداد ديني يشرعن له ويفتي بحل جرائمه بل بوجوب تلك الجرائم شرعاً وديناً.

ولكن منظومتي الاستبداد السياسي والديني لا تستمران دون دعم المنظومة ثالثة من الاستبداد، والتي هي السلاح الأنجع والخداع الأكبر، ألا وهي منظومة الاستبداد الاقتصادي. والاستبداد الاقتصادي هو كذلك احتكار قلة من الناس للمصادر والثروات، والتي هي في عصرنا الشركات والأسهم والأراضي والأرصدة والمعادن، وأهم من ذلك المؤسسات التي تستهدف الربح ليس فقط ببيع السلع الاستهلاكية، بل ببيع الخبر الإعلامي والعلاج الطبي والشهادة التأهيلية ووسيلة الاتصالات، وغيرها من السلع التي أصبحت ضرورات يهلك دونها الناس فتذل رقابهم لملاكها الذين يحتكرونها فردياً أو عن طريق اتفاقيات احتكار جماعي.

وأرباب الاستبداد الاقتصادي ليسوا فقط من أولاد المستبدين السياسيين ووارثي الثروات، بل أسوأ أنواع المستبد الاقتصادي هو الذي يأتي من الطبقات الفقيرة والمهمشة التي هي ضحية الاستبداد بأنواعه أصلاً، ولكنه يتنصل منها ويظلمها ويتعالى عليها، ويعطي بخلفيته شرعية للاستبداد الاقتصادي وكأنه يوجد نظام لأتاحة الفرص يسمح للفقير أن يصبح غنياً، والعكس هو الصحيح. قال تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)، فقارون كان من المستضعفين من بني إسرائيل، ولكنه باع قومه ليصبح جزءاً من نظام فرعون الباغي الظالم، وكان هذا هو زواج المال بالسلطة في ذلك العصر وفي كل عصر: تعاون المال والسلطة على البغي.

ولكن المستبد الاقتصادي لا يهمه من يحكم وأي إيديولوجية سياسية أو دينية يتبناها نظام الحكم. كل ما يهمه هو ما تسميه أبواقه الإعلامية (الاستقرار)، والذي يعرفونه أنه إتاحة الفرصة للفساد والإفساد دون معارضة أو احتجاج يعكر صفو الحياة الاجتماعية. أما إذا كان هذا (الاستقرار) فيه فرص أقل للفساد والرشوة والاختلاس وغسيل الأموال، فسيثور المستبد الاقتصادي ثورته الخاصة حتى يزعزع الاستقرار ويضطرب المجتمع ويتاح الفساد والإفساد.

وثورة المستبد الاقتصادي هو في التلاعب بالاقتصاد والأسعار والسلع الأساسية، والتي هي جميعاً خيوط في يديه قادر على شدها متى شاء نظراً للاحتكار، بل إن هذا هو تعريف الاحتكار. ولكن الاستبداد الاقتصادي هو الاحتكار الذي يأتي مع الفساد وليس الاحتكار الذي يستهدف الصالح العام أو تحقيق العدالة الاجتماعية. الاحتكار كوسيلة بحتة قد يُستخدم في الدول المعاصرة للصالح العام وتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك مثل احتكار بعض الدول المتقدمة للتعليم فلا تسمح أصلا بالتعليم الخاص، أو للطب والعلاج فلا تسمح أصلاً بالعلاج الخاص، أو بشركات الاتصال فلا تسمح بشركات اتصالات خاصة. وهذا النوع من الاحتكار إذا حدث في دول فيها نظم مساءلة وشفافية كان هدفه الصالح العام والتأمين لتلك الخدمات الأساسية وضمان مستوى عال ومراقب من الخدمة.

هذا لا يدخل تحت حديث الرسول (ص): المحتكر خاطئ. المحتكر الخاطئ هو الذي يحتكر السلع والخدمات الضرورية في منظومة اقتصادية مصممة أساساً لتخدم الفساد، وهنا يركز الأفراد المحتكرون على احتكار وسائل الإصلاح في المجتمع، وهذه هي الطامة الكبرى لأن هؤلاء الأفراد يحتكرون الإعلام والتعليم والصحة والنشر والطب وغيرها من الخدمات والوسائل التي هي أساساً لإصلاح الشعوب وتقويم الخلل بها. فإذا تحولت هذه الخدمات إلى سلع محتكرة كان المحتكرون هم أول من يمنع تقدم الشعوب في أي من هذه المجالات، وهم طبعاً أول من يقف ضد الحراك الشعبي المطالب بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. بل ومن سمات الاستبداد الاقتصادي تقنين الفساد حتى تصبح كل تلك الجرائم التي نذكرها مشروعة بالقانون ومحمية بسلطة الدولة.

والاستبداد الاقتصادي يخدم الاستبدادين السياسي والديني بل ويمنّ عليهما عن طريق هذه الوسائل التي يحتكرها. فأبواق الإعلام، ومجالات الاتصال، ومناهج المدارس، ودور النشر، فضلاً عن السلع الأساسية والخدمات الضرورية، كلها في أيديهم، ويملكون قفلها وفتحها لخدمة الاستبداد في صوره الأخرى السياسية والدينية.

الاستبداد الاقتصادي يملك مفاتيح السلطة الناعمة التي تخدم السلطة الخشنة. ثم إن الاستبداد الاقتصادي ليس حكراً على الأغنياء والقطط السمان وأولاد ونسائب الحكام، بل هو ثقافة عميقة في الشعوب تأكل قواها وتهدمها من الداخل. كل من يحتكم على قوة اقتصادية من أعلى الهرم إلى أسفله يحتكر هذه القوة لصالحه الخاص، ويتلاعب بالمعلومات واللوائح والخدمات على مستواه من أجل تحويل الثروة من الصالح العام إلى جيبه هو شخصياً. ولذلك، فلابد في عملية تفكيك الاستبداد الاقتصادي أن نبدأ بالمحتكرين الصغار أصحاب الأعمال الصغيرة وذوي المسؤولية المحدودة، لأن تحقيق نجاحات على مستوى المستبدين الصغار هو الذي يصنع كرة الثلج التي نحتاجها من أجل التخلص من المستبدين الكبار الذين لن يكون إخراجهم من لعبة الاستبداد السياسي والديني سهلة.

وقد يسأل سائل: هل هناك حد أقصى للغنى في الإسلام؟ هل هذا الكلام في صالح تبني الاشتراكية ونظامها مثلاً؟ والجواب: لا، ولكن هذا لا يعني أن الإسلام نظام رأسمالي بالضرورة ولا أنه يتبنى فلسفة السوق الحر كلها بالضرورة، ولا يعني إباحة الغنى في الإسلام أن يباح الاحتكار خاصة في الصورة التي تصنع المستبد الاقتصادي.

وقد يدعم قارون مشروعات هامان. قد يشتري الاستبداد الاقتصادي الاستبدادَ الديني عن طريق رعاية مزعومة للعمل الخيري والبرامج الدينية وبعثات الحج وترميم المساجد ومسابقات حفظ القران الكريم والدراسات الإسلامية الشرعية. وهذه الرعاية تضمن للمستبد الاقتصادي السلامة من النقد باسم الشريعة، بل يصوّر المستبد الاقتصادي في الخطاب الديني على أنه صاحب الفضل في الرعاية وعلى أنه متدين فاعل للخير، ولا يسأله أحد طبعاً من أين أتى بثروته الخارجة عن منطق الكسب المشروع؟ ولا يبحث أحد في حكم الاحتكار والمحتكرين، ولا في علاقتهم بالطغاة والمستبدين السياسيين.

ولذلك فالبرامج والمؤسسات الدينية المدعومة من المستبدين لا تعلّم الناس عن العدالة الاجتماعية في الإسلام، ولا عن مقاصد الشريعة في تقديم الضرورات على الحاجات، والحاجات على التحسينيات والاستهلاكيات، ولا تفتي للناس أن الاستهلاكيات غير ضرورية ولا ينبغي أن يلتهي بها الناس، وأن التصنيع والإنتاج واجب شرعي لابد أن يقوم بعدد كاف ونوعية كافية للأمة، ولا أن إنتاج الطعام الترفيهي الغير صحي حرام، ولا أن التلوث البيئي الذي تخلفه الشركات العابرة للقارات في الماء أو الجو معصية، ولا أن قطع الشجر وتجريف التربة الخصبة والتلاعب بالجينات الحيوانية والنباتية كبائر من كبائر الذنوب.

وأخيراً: فإن أسوأ أنواع الاستبداد الاقتصادي هو الذي يقوم به المستبدون السياسيون أو المستبدون الدينيون، أي بعبارة أخرى أسوأ أنواع رجال الأعمال هم رجال الدولة أو رجال الدين. لا يصح أن يشتغل رجال الدولة ذوي المسؤولية التنفيذية أو أرباب الخدمة العامة بالتجارة و(البزنس) فيخلطون بين السلطات ويستغلون نفوذهم السياسي من أجل مزيد من المكاسب في جيوبهم. بل ينبغي على صاحب المسؤولية العامة أن يتجرد لها ويجعل بينه وبين استثماراته إن كان له استثمارات مسافة لا تختلط فيها الأوراق.

والأمر أشد في حال العلماء ودعاة الإسلام وحراس الشريعة: لا يصح أن يشتغل هؤلاء بالتجارة و(البزنس) إلا في حدود لا يخلطون فيها بين سلطتهم الدينية والأخلاقية وبين التجارة، ولا يستغلون نفوذهم الديني على العباد من أجل مزيد من المكاسب في جيوبهم، بل على العكس ينبغي أن ينفقوا من ما رزقهم الله في خدمة الدين ورفعة شأنه. ينبغي على حراس الشريعة ودعاة الإسلام الحقيقيين أن يتجردوا له ويجعلوا بينهم وبين التجارة والاستثمار مسافة لا تختلط فيها الأوراق. ومن أهم استراتيجيات التفكيك لمنظومات الاستبداد أن نقطع الروابط ونكشف التشابك بين تلك الأنواع الثلاثة من الاستبداد: الاستبداد السياسي والاستبداد الديني والاستبداد الاقتصادي.