يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:

“رُبَّما أَعْطاكَ فَمَنَعَكَ وَرُبَّما مَنَعَكَ فأَعْطاكَ. إن فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء. إنَّما يُؤلِمُكَ المَنْعُ لِعَدَمِ فَهْمِكَ عَنِ اللهِ فيهِ. رُبَّما فَتَحَ لَكَ بابَ الطّاعَةِ وَما فَتَحَ لَكَ بابَ القَبولِ. وَرُبَّما قَضى عَلَيْكَ بِالذَّنْبِ فَكانَ سَبَبَاً في الوُصولِ. مَعْصِيَةٌ أَورَثَتْ ذُلاً وافْتِقاراً خَيرٌ مِنْ طاعَةٍ أوْرَثَتْ عِزّاً وَاسْتِكْباراً.”

الله عز وجل يعطيك أحيانًا، ويمنعك أحيانًا أخرى. يبتليك بالخير أحياناً وبالشر أحيانًا أخرى، بالسراء أحيانًا وبالضراء أحيانًا أخرى، بالنعمة أحيانًا وبالحرمان منها أحيانًا أخرى. ولكنّ الأمر على حقيقته قد يختلف عن ما أظن أنا أنه خير أو شر أو نعمة أو نقمة!

في هذه المرحلة من الرحلة إلى الله، هناك ضرورة لحسن الفهم عن الله سبحانه وتعالى في عطائه ومنعه، لأن الأمور قد لا تكون كما تبدو ظواهرها. نقرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا}. (كلّا): أي أن الله عز وجل يقول إن هذا ليس هو الفهم الصحيح لاتساع الرزق أو ضيق الرزق.

إن قَدَر الله عليك الرزق، فهذا لا يعني أنه يهينك، وإن نعَّمك وأغدق عليك بعض الرفاهية فهذا لا يعني أنه يكرمك، ولا يعني بلوغ المكانة الرفيعة، بل العكس قد يكون صحيحاً. والسؤال الآن هو: كيف نحكم في هذا الأمر؟

ينبه الشيخ على معني هام في هذه الحكمة، وهو معني (الفهم). يقول: (إن فتح الله تعالى لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء). فإن منعك أو أخذ منك الله عز وجل شيئاً من المال، أو الوظيفة، أو الصحة، أو الأهل، أي أخذ منك شيئاً هاماً وغالياً، ولكنه في نفس الوقت قد فتح لك باباً للفهم، أي باباً للعبرة والتفكر والنضوج والقرب من الله – إن حدث ذلك فما حدث ليس منعاً، بل هو عطاء وهدية، وعندها تتحول المحنة إلى منحة!

وبالفهم عن الله عز وجل، تعرف أن ما يحدث من بلاء هو عين العطاء، لأنك قبل الفهم كنت تنظر إلى المادة، وإلى الحواس الخمس، وإلى الأرقام، فتقول مثلاً: (قد خسرت عشرة آلاف)، أو (ذهب كذا من أهلي أو صحتي أو من متاع الدنيا)، إلى آخره.

ولكنّ ذلك هو الحساب المادي، والله عز وجل قد يأخذ منك العشرة آلاف ولكنه يعطيك فهماً، ويعطيك رضى، ويعطيك عملاً صالحاً، ويعطيك همة عالية لتغيير حالك، وقد يعطيك صديقاً وفياً يقف معك، وقد يعطيك استكانة له سبحانه وتعالى ودعاءً وقرباً وتوكلاً عليه سبحانه وتعالى فتكون خسارة هذه العشرة آلاف هي عين العطاء وعين المنحة. بل وقد يعطيك بدلاً منها مائة ألف مثلاً في وقت لاحق نتيجة مراجعتك لنفسك وتحسينك لمسلكك.

لابد إذن من أن نحسن الفهم عن الله سبحانه وتعالى، ولابد أن تعتدل الموازين حتى نفهم ما هو المنع وما هو العطاء. لأنه أحيانًا نتصور أن شيئاً ما منع، ويكون هو عين العطاء. ونتصور أن شيئاً ما عطاء، ويكون هو عين المنع.

والمثال بالعكس صحيح، فقد يعطي الله سبحانه وتعالى إنساناً عشرة آلاف ابتلاء له، فلا يشكر الله عليه بالقول ولا بالعمل، ويغتر بالمال، ولعله يصرفه في الحرام، وتكون العاقبة سيئة، والعياذ بالله. ولعل الله عز وجل يُمْلي لهذا الإنسان: {وأملي لهم إن كيدي متين}،  والعياذ بالله. فالله عز وجل أحيانًا ما يفتح الأبواب عقوبة، {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}. ولابد للعبد العاقل أن يخاف من هذا.

إذن، إذا حدث لك انفتاح في الرزق، أو انفتاح في شيء تطلبه، لابد أن تفهم عن الله سبحانه وتعالى. أولاً، أن تشكر الله سبحانه وتعالى حتى تقيد النعمة إليك، كما مر. وثانياً، أن تحاول أن تفهم الحكمة والمعنى وراء هذا العطاء، وأن تحذر من ما فيه من فتنة.

ويضرب الشيخ هنا مثالاً آخر في نفس المعنى. يقول رحمه الله: (ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك الذنب فكان سبباً في الوصول).

هنا يعطيك الله تعالى الطاعة أو العبادة أو العمل الصالح، صليت القيام، أو حفظت القرآن، أو تصدقت، أو صمت، أو حججت، وهذا فتح من الله سبحانه وتعالى. لكن احذر! فأحيانًا تتخيل أن العبادة نفسها في حد ذاتها عطاء وما هى بعطاء، لماذا؟

مثلًا، قد يبطل العبد ثوابه بنفسه بعد أداء العمل. فمثلاً، قال تعالي: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى لهم أجرهم}. فالمنّ والأذى يبطل الصدقة ويسدّ باب القبول والأجر.

وقد يكون هناك طاعة ولكن سوء أداء العبد لهذه الطاعة نتج عن رياء مثلاً: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}، وإذن تؤدي هذه الطاعة إلى عقوبة، والعياذ بالله، لأن المقصود من الطاعة هو الإخلاص فيها والانتفاع بها خلقياً وروحياً. فإن حدثت الطاعة ولم يحدث الإخلاص أو لم يتم الانتفاع بها روحياً وخلقياً، فلا قيمة لها. ولذلك، ففي الحديث أنه: (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه)، أي أن صيامه غير مقبول ومردود عليه، والعياذ بالله.

ثم يعطينا الشيخ مثلاً آخر في باب الطاعة والمعصية مما يتطلب دقة في الفهم. يقول الشيخ: (وربما قضى عليك الذنب فكان سبباً في الوصول)، وفي هذا المعنى يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً فأدخلت صاحبها الجنة، ورب طاعة أورثت صاحبها عجباً وكبراً فأدخلته النار).

والمعصية في حد ذاتها لا تدخل أحداً الجنة طبعاً، ولكنها قد حدثت بالفعل وحدثت التوبة، ويذكر العاصي ذنبه باستمرار ولا ينساه، بل يجتهد ويجدّ حتى يدخل الجنة. وهذا المعنى من معاني العطاء والمنع. أحيانًا تكون معصية، ولكنها معصية تاب العبد منها وتورث الذل والانكسار لله سبحانه وتعالى، فتصبح منحة وتصبح عطاء.

وهذا لا يعني أن أذهب وآتي المعاصي ثم أقول: حتى ينكسر القلب ويتوب، هذا فهم خاطئ منحرف انزلق إليه بعض الجهال. ولكنني أتحدث عما سبق وحدث من المعاصي في الماضي، أن تورث هذه المعاصي الذل والانكسار لله سبحانه وتعالى. ولعل ذلك أفضل من طاعة تورث العزة والاستكبار: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، كما قال صلى الله عليه وسلم. فإن كانت ثمة طاعة، ولكنها أورثت فاعلها الكبر، فعدمها أفضل. فلابد إذن أن ننظر إلى مدى القرب والبعد من الله عز وجل، وأن يكون هذا هو المعيار.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). وهذا الحديث يدل على أنك أنت الذي تصنع الخير أو الشر لنفسك في الحقيقة، والأمر بيدك أنت! إن استقبلت السراء بالشكر فهو خير، وإن استقبلت الضراء بالصبر فهو خير، وإن استقبلت السراء بالكبر والمعصية فهو شر، وإن استقبلت الضراء بالضجر والكفر فهو شر، فأنت الذي تحدد: عطاء أم منع، حسب ردّ فعلك أنت.

(ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك). فأحسن الفهم عن الله عز وجل في عطائه ومنعه، فهذه ضرورة للسالكين إلى الله سبحانه وتعالى وللمتخلقين مع الله تبارك وتعالى بأخلاق الإحسان: أن تدرك أن العطاء والمنع في يدك وفي قلبك، والعطاء والمنع يكون حسب رد فعلك، فالله تعالى دائما يعطيك، ودائما ما يعرضك إلى ما هو خير، وهو دائما ما يحسن الاختيار لنا في كل الأحوال. والأمر إلينا! وهذا في حد ذاته من نعمه ولطفه وجميل كرمه معنا: أن يجعل أمرنا كله خير. {بيدك الخير إنك على كل شئ قدير}.

نسأل الله عز وجل حسن الفهم عنه، وحسن الفهم فيما يعطينا وفيما يمنعنا، وصلى اللهم على سيدنا محمد.