لكل إنسان هوية بل هويات، ولكل أمة هوية بل هويات، والهويّة هي مجموعة من المكونات الثقافية واللغوية والدينية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية التي تميز الإنسان عن غيره من البشر وتميز الأمة عن غيرها من الأمم.

وأهم مكونات الهوية الإسلامية التي يشترك فيها كل المسلمين والتي تميزهم عن غيرهم من الأمم والشعوب والحضارات – أهم هذه المكونات هي: الشريعة الإسلامية.
ولكن الهويات تتعدد ولا يلزم أن تتناقض!
فإذا أخذنا المصريين كمثال، وجدنا أنهم أصحاب هويات وثقافات متعددة وليست هوية وثقافة واحدة، وكل إنسان مصري –مثلًا- يحمل أكثر من هوية، ولا يلزم أن تتناقض هذه الهويات، بل هي تتكامل في شخصيته وفي سلوكه. أولاً: يحمل المصريون جميعاً ما يمكن أن نطلق عليه الهوية المصرية، وهي الصفات المميزة الخاصة التي تتعلق بمصر كبلد قديم حديث، أي بثقافة مصر وتاريخها وجغرافيتها، وهذه هوية يشترك فيها المصريون جميعًا كهوية وطنية.
ولكن المصريين أيضا أو الغالبية الساحقة منهم يحملون هوية عربية، وهي مجموعة مكونات تتعلق باللغة العربية، وبالأجناس العربية المختلفة، وبالانتماء للوطن العربي الممتد من المغرب إلى العراق بثقافته وتاريخه وجغرافيته وما يحمله من آلام وأمال مشتركة. وهذا مكونٌ أخر مهم من مكونات الهوية المصرية سواء للمسلمين أو غيرهم، فهم جميعًا يتكلمون اللغة العربية ويقرأون كتبهم المقدسة نفسها بالعربية، وهو ما يعني نوعًا من الانتماء للأمة العربية عند الجميع، ويمثل تقاطعًا وتماهيًا بين هوية المصري وهويات غيره من العرب.
والهوية المسيحية هي أيضا جزء من الهوية المصرية، وفيها ينتمي المسيحي المصري للكنيسة المصرية الأرسذوكسية أو غيرها من الكنائس الحية في مصر على مدار العصور، وهذا انتماء له أثره العميق في عقيدته وأسرته وحياته ورؤيته للعالم (التي تتكون من مفاهيم: الله، والإنسان، والكون، والحياة، والعقل، والتاريخ، وغير ذلك من المكونات العميقة في وعي الإنسان).
والهوية المصرية تتعلق كذلك ببعض الأعراق والانتماءات القبلية التي تخص بعض المصريين دون بعض، فمثلاً: الهوية النوبية هي جزء من الهوية المصرية، فيها ينتمي أصحاب هذه الهوية إلى أصولهم الأفريقية بشكل واضح، ولهم تقاليد وثقافة بل ولغة مميزة. والهوية البدوية لأهل سيناء هوية ينتمون فيها لأصولهم العرقية بالإضافة إلى انتمائاتهم المصرية الأخرى. وهوية أولاد علي في غرب مصر هي هوية بدوية أخرى ويشتركون في أعراقهم وكثير من المكونات الثقافية مع إخوانهم من الليبيين في شرق ليبيا الذين ينتمون لنفس القبائل. وهوية “الأشراف” من المصريين تكونت لأن لهم أصولا ينتسبون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعتزون بهذه الهوية ويتجمعون حولها بشكل منظم ويعتبرونها جزءاً من هويتهم ومكونًا من ثقافتهم وتاريخهم.
وبعض المصريين لهم هويات أخرى تتعلق بالبلاد الشرقية أو الغربية المختلفة التي هاجروا إليها أو عاشوا فيها، فالمصريون الذين هاجروا أو عاشوا في الخارج لفترات طويلة كونوا وكوّن أولادهم هويات شرقية وغربية تتعلق بحضارات أخرى، وتتقاطع هذه الهويات عندهم مع الهوية المصرية، خاصة مع ظاهرة هجرة العقول التي هي ظاهرة مصرية وعربية كبيرة.
وكذلك، فإن أغلب المصريين أصحاب هوية إسلامية تربطهم بالإسلام، أي تتعلق بالثقافة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، والجغرافيا الإسلامية أو الوجود الإسلامي في أنحاء العالم. هذا التعلق من المصريين بالإسلام هو على درجات تقترب أو تبتعد حسب تدينهم وممارستهم لشعائر الإسلام، أي حسب القرب والبعد من: الشريعة الإسلامية. فالشريعة في مسألة “الهوية المصرية” هي المعيار الذي يحدد قرب أو بُعد المصري عن الهوية الإسلامية. وبالتالي فقضية الشريعة في مصر هي قضية بالغة الأهمية لأنها عند أغلب المصريين قضية هوية وماهية وليست ترفًا أو تراثًا.
ويمكن أن نقيس المثال السابق على غيره من الشعوب العربية والإسلامية، والتي تمثل الشريعة فيها مكونًا أساسيًا –وليس الوحيد بالطبع- في هويتها أو هوية الغالبية المسلمة، بالإضافة إلى الهويات الأخرى التي تعرّفها اللغات والأديان والمذاهب والطوائف والقبائل والبطون والمناطق المكوّنة لتلك الشعوب.
وأصل كلمة الشريعة –لغة- تعني الطريق الذي يوصل إلى الماء، وهي في الاستخدام الفكري والمصطلح الإسلامي تعبر عن المنهج الإلهي للحياة البشرية. قال الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}[1]، أي أن كل دين سماوي يتعلق بشريعة له، وقال عن المسلمين: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[2]، وهذه الآية بالتالي تتحدث عن المشتركات في الشرائع بين هذه الشرائع السماوية كلها.
وأما عن الإسلام فقد قال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {ثمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[3]، وبالتالي فالشريعة الإسلامية هي المنهج الإلهي الإسلامي الذي نزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يتمثل في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، على صاحبها الصلاة والسلام.
ولعل من المفيد هنا أن نفرق بين الشريعة والفقه. فالفقه هو الفهم والتصور، أو الأفكار والقوانين العملية التي يفهمها البشر من الفقهاء من الشريعة الإلهية أي من فهم القرآن والسنة. وهناك فارق بين الشارع والفقيه، فالشارع هو الله سبحانه وتعالى وهي صفة تطلق على الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحيانًا حين يبلغ عن ربه بلاغًا مباشرًا قوليًا أو عمليًا، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتبر شارعًا حين يتصرف كبشر في حياته اليومية، أو كما يقول العلماء “التصرف بالجبلّة” أي بطبيعته البشرية – صلى الله عليه وسلم.
وأما الفقيه فهو دون الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من البشر الذين اجتهدوا أن يفهموا الشريعة، ولذلك يقولون في الأصول: (لا يقال إن الله فقيه)، فالفقه صفة لا تنسب إلى الله سبحانه وتعالى لأنها صفة بشرية، أي صفة نقص وليست صفة كمال! ولا ينسب إلى الله إلا الكمال. الفقيه إنسان والشارع هو الله، والفقيه يصيب ويخطئ والله عز وجل منَزّه عن ذلك، والفقيه يغير رأيه الفقهي مع تغير الزمان والمكان والأحوال أو مع ظهور أدلة جديدة ترشده للصواب، والله عز وجل منَزّه عن ذلك كله.
والشريعة بمعنى “مكون الهوية” لا يصح أن يدخل فيها الاجتهاد الفقهي! بمعنى أنه لا ينبغي أن تشتمل الهوية على أمور قد تختلف فيها الاجتهادات والآراء الفقهية أو مسائل تخضع للظروف والأعراف والأحوال ولو كانت جزءًا من الشريعة بالمعنى الفقهي التقليدي، ولا يصح لأحد أن يدعي في مسائل شرعية فرعية أو جزئية تختلف فيها الأنظار – يدعي أنها “قضية هوية”. وإنما الشريعة بمعنى الهوية هنا تشمل الأصول العقدية والتشريعية الموحى بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي بنيت عليها مسائل الإيمان والأحكام القطعية التي لا يختلف عليها مسلمان، وهذه مساحة محدودة ولكنها هامة وأساسية.
أما الشريعة بمعناها الفقهي الواسع فتحتمل خلافات كثيرة يعرفها المشتغلون بهذا العلم. بل إنه في الواقع ليس هناك من مسألة فرعية في الفقه إلا وتحتمل الآراء والاختلافات، والقليل جداً من المسائل هي التي يسميها العلماء “الأصول” ويتفقون عليها جميعًا ويطلقون ما يسمى “الإجماع” على هذا الاتفاق، بل ويتفق عليها المسلمون جميعًا. هذه المسائل –التى تسمى أيضاً “قطعيات”- هي التي يمكن عمليًا أن نعتبرها مكونات للهوية الإسلامية، وتبقى المسائل الشرعية الفقهية التي تختلف فيها الاجتهادات مفتوحة لاحتمالات الصواب والخطأ ولا تتعلق بالأصول أو الإيمان والكفر أو الهوية بحال.
والذين نادوا أو ينادون بحذف الإشارة إلى الإسلام أو الشريعة تماماً من الدساتير في بلاد الأغلبيات الإسلامية – كما رأينا في مصر وتونس مثلًا باسم “المدنية”، هؤلاء يناقضون في الواقع مكونًا رئيسًا من شخصية قطاع ساحق من شعوبهم ويطعنون في هويتها، ولا أظن أبدًا أن الغالبية الساحقة من المسلمين (وهم الغالبية الساحقة من الشعب المصري والتونسي مثلًا) سيرضون بحذف هذه الإشارة للإسلام من دستورهم نظرًا لأن هذا فعلاً يمس هويتهم، والتي كما قلنا آنفًا تشترك ولا تتناقض مع الهويات الأخرى المحلية والعربية والقبلية وغيرها.
ولكن يبقى سؤال كبير ومهم: إلى أي حد ينبغي أن تؤثر “الشريعة” في النظام العام؟ وهل يدخل في “الشريعة” هنا كل التفاصيل الفقهية التي اتفق عليها العلماء في كل مجالات الحياة كما ينادي البعض، أم أن ما يلزمنا هنا هو فقط المبادئ العامة والمقاصد والمعاني (كالعدل والإخاء والحرية والتعاون، إلى آخره) كما ينادي البعض الآخر؟
والحق أن الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل وإلى تفرقة بين أنواع مختلفة من القضايا. فهناك قضايا الشريعة فيها ينبغي أن تكون مرجعيتها كمبادئ وقيم ومعاني عامة فقط، وليس في كل القضايا، وهناك قضايا أخرى الشريعة فيها لابد أن تدخل في التفاصيل والقوانين المحددة، وليس في كل القضايا. وسوف يأتي تفصيل هذه القضية في سياق الحديث عن “الديني والمدني” والعلاقة بينهما، وهناك نشرح ما هي الأمور التي ينبغي أن نعود فيها فقط إلى الشريعة كمبادئ عامة وكمقاصد كلية ومعانٍ وقيم قد يشترك فيها الجميع، وما هي الأمور التي ينبغي أن نعود فيه إلى الشريعة بتفاصيلها الفقهية المحددة كما هي في المذاهب الإسلامية المعروفة مثلاً – مما سوف يأتي ذكره في موضعه.
ولكن الإجابة عن ذلك السؤال تتعلق كذلك وبشكل مباشر بموقف غير المسلمين في مجتمع الأغلبية المسلمة ومدى حقهم أن يعودوا لدينهم في بعض القضايا، وهو ما يحفظ عليهم أيضًا هوياتهم الخاصة التي يعتزون بها. ويتعلق هذا السؤال كذلك بموقف كثير من المسلمين الذين يرفضون الرجوع إلى الشريعة أصلًا باسم العلمانية أو الليبرالية أو غيرها من المذاهب السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المائدة: 48
[2] الشورى 13
[3] الجاثية 18