انتشرت ظواهر خطيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في الآونة الأخيرة، كالإلحاد، وترك الصلاة، والزنا، والمخدرات، والخمور، والشذوذ، والسباب، والتفكك الأسري، وهجر الالتزام بالأحكام الإسلامية في الاحتشام والحياء والتعامل بين الجنسين، فضلاً عن الظلم الفاحش بين الناس في الأنفس والأعراض والأموال والحقوق، ومستويات غير مسبوقة من الدموية والعنف والعدوانية والتحرش واستباحة الحرام. وأصبح الحال العام الديني والأخلاقي في المجتمعات العربية خاصة في حالة مأساوية يرثى لها وبشكل ظاهر لكل ذي عينين.

وهذه الظواهر في نظري لها علاقة كبيرة بفشل “الإسلاميين” مؤخراً بشكل عام على مختلف ألوانهم وتياراتهم، وانحسار موجتهم على مستويات مختلفة خاصة المستوى السياسي، والهجوم الإعلامي والسياسي بل الهجوم المسلح أحياناً، على كل ما هو “إسلامي”، وكل ما هو “شرعي”، وكل ما هو “لربنا”، هجوماً ضارياً وسخرية لاذعة واعتداء أثيماً على دين الله تعالى بقصد من الخبثاء، ودون قصد من الجهلاء.
لم يستمع “الإسلاميون” في الماضي القريب لنصح الناصحين أن التصدي لمسؤوليات أكبر من حجمهم، وعدم وجود إستراتيجيات لحركاتهم أصلاً، ودخولهم في معارك غير متكافئة القوى يمكن تجنبها، أن كل ذلك سيضر أول ما يضر بالإسلام كإسلام وبالدين كدين وعلى مستوى الأمة في العالم كله.
لم يستمع “الإسلاميون” إلى نصح الناصحين بأن الفشل السياسي المتوقع سيجهض مشاريع إسلامية كثيرة سياسية واقتصادية وتعليمية وبحثية وخيرية وإعلامية واجتماعية وفنية، والتي هي مشاريع ما زالت في المرحلة الجنينية وتحتاج إلى رعاية وصبر وهدوء قبل أن تولد أصلاً، فضلاً عن أن تدخل في حروب يخططها الجبابرة وأصحاب المليارات وصانعي السلاح وتجار المخدرات في هذا العالم بدهاء شديد، فتُسحق المشاريع الإسلامية تحت أقدام موازين القوى المحلية والدولية، والخاسر هو الإسلام للأسف.
وعلى صعيد آخر، فشل أيضاً تيار آخر من “الإسلاميين” يربط نفسه اسماً ومظهراً “بالسلف” من أمة الإسلام، ويتخذ أشكالاً سياسية مختلفة تتراوح من الأحزاب السياسية إلى التجمعات “العلمية” إلى إيديولوجيات الدول، ولكنه لم يقدم حلولاً لمشكلات الأمة بل عقّدها وأصبح بعضهم “يشرعن” للاستبداد والفساد باسم الإسلام والإسلام من ذلك براء.
وعلى صعيد آخر، ظهر نوع آخر من “الإسلاميين” الذين يدّعون إقامة الخلافة ودولة الإسلام، ولا يرى عقلاء الناس من “التدعوش” إلا التواطؤ الواضح مع أعداء الإسلام على المستوى الاستراتيجي، والفوضى والتخلف على المستوى الإداري والحقوقي، والجهل والكبر على المستوى العلمي والشرعي، والدموية والإجرام على المستوى العسكري والأمني.
واستكمالاً للمؤامرة تدق الآن طبول الحرب في الوقت المحدد و(كله حسب الخطة)، والخاسر كذلك هو الإسلام للأسف. ولكن الإشكالية الكبيرة هو أن كثيراً من الشباب والشابات ربطوا الالتزام بالإسلام برموز وجماعات وتيارات “إسلامية” سياسية أو إعلامية أو خطابية أو علمية.
فلما اهتزت هذه الجماعات والرموز جميعاً -بالحق أو بالباطل- حين قفزت في أتون المخاض الحالي ودخلت الصراعات الصفرية الحالية الشديدة الغباء التي تجعل الحليم حيراناً، هنا اهتز الإسلام نفسه والعياذ بالله في نفوس الشباب والفتيات، عقيدة وشريعة وسلوكاً.
ولكن الإسلام هو دين الله تعالى وميراث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولابد لكل مسلم أن يعلم أن الإسلام هو دين الله تعالى، وهو أوسع من أي مؤسسة “إسلامية” شرعية كانت أم حزبية أم سياسية، وهو أبقى من أي شخص أو جماعة أو هيئة أو طريقة أو مشروع أو دولة.
وإذا تساءلنا مع الشباب: ما هو الإسلام تحديداً؟ فالجواب أن الإسلام رسالة الخالق البارئ سبحانه وتعالى الذي أنزلها على رحمة العالمين محمد صلى الله عليه وسلم، ليعلّم الناس الخير ويدعو إليه، ويخرج البشرية من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، ومن عبادة الناس إلى عبادة الواحد الأحد، ومن سوء الأخلاق وفساد الإنسان والكون إلى حسن الخلق والصلاح والإصلاح والحسن والإحسان، وينقذهم من الحساب السيئ عند لقاء الله تعالى والعياذ بالله، إلى حياة أفضل بعد الممات في دار السلام وجنة الخلد التي أعدت للمتقين.
وثوابت الإسلام وأصوله التي ليس لها علاقة بالبشر والتي هي أمانة في عنق كل مسلم، هي (١) عقيدة الإسلام و(٢) شريعة الإسلام و(٣) أخلاق الإسلام. أما العقيدة الإسلامية فأساسها توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والتي تثمر في قلب المؤمن إخلاصاً وتوكلاً وشكراً وخوفاً ورجاء وذكراً وخشوعاً ودعاءاً وتفكراً وتوبة، إلى آخر هذه المعاني التي هي آثار العقيدة في قلب المؤمن.
ولا يدخل في العقيدة الإسلامية مسائل فلسفية تنتمي لما يسمى “علم الكلام” ويكثر حولها الجدل دون داعٍ وتلصق بالعقيدة الإسلامية زوراً وبهتاناً. فالعقيدة شيء وعلم الكلام شيء آخر لا يلزم المسلم حتى أن يعرفه. وليس لعقائد الإسلام علاقة بالإسلاميين ومشاكلهم وأفكارهم.
وأما الشريعة التي هي أمانة في عنق كل مسلم، فهي أحكام الإسلام اللازمة الخالدة، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والإحسان إلى الجار وصلة الرحم وأداء الأمانة وستر العورات وإعمار المساجد وأحكام الزواج وحدوده وأحكام الميراث والوصية، والجانب الآخر من الشريعة هو تحريم الحرام كالقتل والزنا والرشوة والسرقة وقطع الأرحام والفحش في القول والفعل والمظهر والسلوك، إلى آخر المعروف المعلوم من شريعة الإسلام.
ومنها كذلك الحفاظ على مقدسات الإسلام كالبيت الحرام والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى المبارك بصرف النظر عن كل الآراء والنظم السياسية المتعلقة بذلك. وكل معالم الشريعة المذكورة ليس لها علاقة في دين الله بالإسلاميين أو ألوانهم أو تياراتهم أو دولهم أو نجاحهم أو فشلهم، وهو أمانة في عنق كل مسلم يسأله الله تعالى عليها. “الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة …”، كما عدّد الرسول صلى الله عليه وسلم شعائر الإسلام في الحديث المعروف.
وأما الفتاوى الخلافية والآراء الفقهية فمجال الخلاف فيها واسع ومن العلماء من يصيب ومنهم من يخطئ، ولا يصح أن نخلط بين خلافيات الفقه وثوابت الشريعة، ولا ينبغي تحديداً أن نخلط بين الفتاوى المنحرفة والممارسات الغير إنسانية والآراء المتخلفة لبعض “المجاهدين” والمشايخ والحركيين والإعلاميين، وبين الثوابت الراسخة والمعالم الخالدة لشريعة الله التي هي في عمق الهوية الدينية لكل مسلم.
وأما الأخلاق الإسلامية كقول الحق والصبر والصدق والأمانة والكرم وسلامة النفس من الأحقاد والشجاعة والمروءة والتعاون على الخير ونصرة المظلوم وإطعام المسكين والرأفة باليتيم والنجدة في الأزمات وكظم الغيظ وستر عورات الناس وحفظ أسرارهم، إلى آخره، فلا يصح شرعاً ولا عقلاً ربطها بأي مخلوق كان إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، والذي مدحه ربه فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم).
والحق أننا نحتاج إلى ثورة أخلاقية عارمة وعميقة قبل أي ثورة سياسية، كما نردد دائماً. ولا يصح أن تضيع أخلاق الإسلام في خضم الصراعات المشخصنة والجدالات الفارغة حول السياسة. ورحم الله شوقي أمير الشعراء: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وقد انتشرت مؤخراً نزعة إسلامية أخرى تقدم نفسها هذه الأيام في الشرق والغرب بديلاً عن نزعات “الإسلاميين”، ألا وهي التصوف بمشايخه وحركاته ومعاهده وطرقه المنظمة وغير المنظمة. والتصوف جانب جميل من جوانب الإسلام وعلم أصيل من علومه الشرعية، ولكن ينبغي على الصوفي الحقيقي أن ينأى بنفسه ومريديه عن إتباع أهواء الحكام والحكومات من جانب وأهواء العامة والدهماء من جانب آخر، وأن لا يقول كلمة الباطل إن حال الظرف بينه وبين أن يقول كلمة الحق، وأن يركز فعلاً -كما هي رسالة التصوف- على إصلاح النفوس وتزكية الأخلاق وجهاد النفس بل وجهاد الأعداء إن دعا داعي الجهاد، وهذا هو التصوف الحق.
أخيراً واختصاراً .. يا أهل الإسلام. فرقوا بين الإسلام والإسلاميين، واتقوا الله والتزموا بدينه وثوابته وعقيدته وشريعته وأخلاقه بصرف النظر عن الإسلاميين، من نجح منهم ومن فشل، من ثبت منهم ومن انحرف، من تسلف منهم ومن تأخون ومن تدعوش ومن تدروش. من كان يعبد الإسلاميين فإن الإسلاميين زائلون ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.