مقدمة عندما ختم الله الرسالات السماوية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل كتابه مهيمناً على ما قبله من كتب؛ فإن هذا عني بالضرورة أن الشريعةَ التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لابد وأن تكون مستوعبة وشاملة وصالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:89]. قال الإمام الشافعي في “رسالته”: وليس تنزلُ بأحد من أهل دينِ اللهِ نــــازلة إلا وفــــي كتابِ اللـــــه الدليل على سبيل الهُـدى فيها.
وكما هو معلوم عند أهلِ العلم أن الأحكام الشرعية منها ما هو منصوصٌ على حكمه، ومنها ما لم يُنص على حكمه. وهذا النوع الثاني يحتاج إلى اجتهاد واستنباط. ولأن الحوادث والنوازل غير متناهية والنصوص متناهية ـ بمعنى أنها لم تَنُص على حكم معين لكل نازلة معينة، كان لابد من الاجتهاد والاستنباط حتى يبقى الإسلام “صالحاً لكل زمان ومكان”. لذلك فقد استفرغ الفقهاء في كل عصر وسعهم في الاجتهاد والاستنباط لمعرفة حكم الله في كل ما يحدث للناس من أقضية ومستجدات؛ حتى تظل تصرفات المكلفين في دائرة الشريعة الإسلامية وتحت راية مقاصدها العليا ومعانيها السامية. وبمرور الزمن، يحدث للناس من الأقضية والمعاملات ما لم يكن لهم به عهدٌ وقت نزول النصوص؛ وكلها يحتاج إلى معرفة حكم الله فيه.
لذلك تأكدت الحاجة للاجتهاد والاستنباط من العلماء؛ حتى يتحقق أكبر قدر ممكن من انضباط الفتوى وسلامتها من الأخطاء. ومصطلح مقاصد الشريعة يطلق على الأهداف والغايات والمعاني العامة التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في حياة الناس، كما يطلق على الأهداف الخاصة التي شرع لتحقيق كل منها حكم خاص. وتطلق كذلك بمعنى النيات، سواء نية المكلف، ولها تأثير على العبادات والمعاملات والعقوبات، أو نية الرسول صلى الله عليه وسلم في تصرفاته – تشريعاً أو قضاءً أو سياسة أو جبلة، إلى آخر ماذكر أهل العلم في هذا الباب.
أما المقاصد العامة، فهي المصالح التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، مثل حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والعرض. وأما المقاصد الشرعية الخاصة: هي المعاني التي لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصد عدم الإضرار بالمرأة في باب الأسرة، ومقصد الردع في باب العقوبات، ومقصد منع الغرر في باب المعاملات المالية، وهكذا.
وقد تكون المقاصد جزئية بمعنى الحكم والأسرار التي راعاها الشارع في حكم بعينه متعلق بالجزئيات، كمقصد توخي الصدق والضبط في مسألة عدد الشهود وأوصافهم، أو مقصد رفع المشقة والحرج في الترخيص بالفطر لمن لا يطيق الصوم، أو مقصد التكافل بين المسلمين في عدم إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، أو مقصد الحفاظ على سلامة الناس في الأمر بقتل الكلب العقور، أو مقصد النظافة في غسل النجاسات، وهكذا.
والمقاصد كما قالوا: أُسُّ باب الاجتهاد، وعدّها الإمام الشاطبي رحمه الله الشرط الأول من شروطه. ولابد للمجتهد من معرفة المقاصد، حتى لا يخرج في حكمه على القضايا المستجدة عن حيز الشريعة نفسها. كتب ابن القيم تحت عنوان “فصل في تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد” – كتب يقول: “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل”.
وهذا البحث يعرض لنوعين من أنواع التجديد المنشود من مدخل مقاصدي؛ أولهما: التجديد في نظرية المقاصد الشرعية نفسها، وثانيهما: التجديد النظري في أصول الفقه باعتبار المقاصد، وذلك عن طريق تقديم مثالين من نظريتين من نظريات الأصول، ألا وهما نظرية الدلالات ونظرية حل التعارض. أما الدلالات، فتمثل المقاصد منهجاً وسطاً بين الاقتصار على دلالات الألفاظ وبين فصل الدال عن المدلول بحجة “التأرّخ”.
وأما حل التعارض عن طريق المقاصد فيقدم هذا البحث مسلكين له بديلاً عن ادعاءات النسخ بدون دليل؛ أولهما فهم تغير تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم حسب تغير الأحوال، وثانيهما فهم مقصد سماحة الشريعة في اعتبار التنوع، ومراعاة العرف، والتدرج في تطبيق الأحكام الشرعية. أولاً: التجديد في تصور المقاصد الشرعية المقَاصد هي المعاني التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، والتي يستقريها العلماء المجتهدون من النصوص الشرعية.
واجتهد العلماء المقاصديون على مر العصور في وضع المقاصد المستقراة في أنساق محددة. أما النَسَقُ التقليدي لتَصْنيفِ المقاصدِ، والذي أبدعه الإمام الجويني في “برهانه” وطوره الإمام الغزالي في “مستصفاه” ثم أفاض الإمام الشاطبي في شرحه في “موافقاته”، فهو هرم مترابط من الأهداف، في قاعدته الضرورات المعروفة التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، من حفظ للدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والعرض، ثم تتلو الضروراتُ الحاجيات، ثم التحسينيات.
وقد جرى عدد كبير من العلماء على هذا التقسيم حين تحدثوا عن تعريفهم للمصالح. أما العلماء المعاصرون، فنجد عندهم محاولات تجديدية تقترح أنساقاً مقاصدية رأوا أنها أولى بتحقيق مفهوم “المصلحة” في واقعنا المعاصر. فمثلاً، أَوْلَى شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور “المقاصد الاجتماعية” اهتماماً خاصاً ظهر في النسق الذي اقترحه، فجعل المقصد الكلي من التشريع هو حفظ نظام الأمة، واعتبر معه مجموعة من المعاني التي سماها بالمقاصد العامة، كالسماحة والمساواة والحرية والعالمية ومراعاة الفطرة وغيرها، وقسَّم كلاً من هذه المقاصد إلى جانب خاص بالفرد وآخر خاص بالأمة، وجعل ما هو خاص بالأمة في مستوى أعلى من ما هو خاص بالأفراد.
وأما السيد رشيد رضا، فقد استقرى مقاصد القرآن في مستوى واحد مقسم إلى مجالات متعددة، وهي: إصلاح أركان الدين، وبيان ما جهل البشر من أمر النبوة، وبيان أن الإسلام دين الفطرة والعقل والعلم والحكمة والبرهان والحرية والاستقلال، والإصلاح الاجتماعي الإنساني السياسي، والتكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات، والعلاقات الدولية في الإسلام، والإصلاح المالي والاقتصادي، ودفع مفاسد الحرب، وإعطاء النساء حقوقهن، وتحرير الرقاب من الرق. واستقرى الدكتور طه جابر العلواني من القرآن الكريم مقاصد وضعها في أصل نسق مقاصدي وسماها “المقاصد الشرعية العليا الحاكمة”، وهي التوحيد والتزكية والعمران.
وقد عرض الشيخ يوسف القرضاوي في كتابِه (كيفَ نتعامل مع القرآن الكريم) سبعةَ مقاصد للقرآن وهي: تصحيح العقائد في التصورات للألوهية والرسالة والجزاء، وتقرير كرامة الإنسان وحقوقه، والدعوة إلى عبادة الله، وتزكية النفس البشرية وتقويم الأخلاق، وتكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، وبناء الأمة الشهيدة على البشرية، والدعوة إلى عالم إنساني متعاون. والشيخ محمد الغزالي رحمه الله رأى إضافة العدل والشورى إلى الضرورات الستة، ومال إلى أن المقاصد ليست منظومة هرمية تنقسم فيها المقاصد إلى أعلى وأدنى، وإنَّما منظومة دائرية تتشابك فيها علاقات المقاصد المختلفة بعضها ببعض. وشاع عند العلماء المعاصرين تجديد آخر في نسق المقاصد النظري عن طريق “إعادة التفسير” للمصطلح المقاصدي الموروث. فمثلاً، ذكر أبو الحسن العامري “مَزْجَرَةَ هَتْكِ السِّتْر” التي شرع لها حد الزنى في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس، ثم اختار إمام الحرمين الجويني في “برهانه” تعبير “عصمة الفروج” للتعبير عن نفس المعنى، ثم استخدم أبو حامد الغزالي تلميذ الجويني في “مستصفاه” تعبير “حفظ النسل”، وهو التعبير الذي تبناه الشاطبي في “موافقاته”.
ولكن الشيخ القرضاوي قدم إبداعاً نوعياً في هذا الباب حين أدرج “تكوين الأسرة الصالحة” في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر. وإذا جاز الحديث عن “حفظ الأسرة” فهذا لا يعني أن تُلغى “مزجرة هتك الستر” أو تسقط “عصمة الفروج” أو يُتناسى “حفظ النسل”، وإنما يعني أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية والجماعية جزء من بناء الأسرة وفي إطارها، وهو أَوْلَى لتحقيق المصلحة في عصرنا، إذ لا يخفَى أن إعطاء هذه الأولوية لمصلحة الأسرة يعزِّزُ من حقوقِ المرأة -التي تحتاج إلى دعم إذا ما استقرَيْنا الواقعَ المعاصر- وحقوقِ الأولاد الذين هم عماد مستقبل المجتمع والأمة، ويحميهم جميعاً من التعسف والبخس. وبهذا التطوير للمصطلح المقاصدي تُوظَّف الشريعة في خدمة قضايا الأمة ومصالحها المعاصرة. وتكلم العامري كذلك عن مقصِد سماه “مَزْجَرَةَ أَخْذِ المال” التي شُرِعَتْ لها حدود السرقة والحِرابة، وكان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى هو مصطلح “عصمة الأموال”، ثم طوَّرَ أبو حامد الغزالي ذلك المعنى في “مستصفاه” إلى جزء من نظرية الحفظ عنده وسماه “حفظ المال”، وأصَّل الشاطبي لنفس المعنى في “موافقاته”.
أما في العصر الحديث، فقد توسع مفهوم المال ليشمل مفهوم القيمة التي ترتبط بالتداول الاقتصادي. وعبرت عن هذا التطور نظريات التمويل الإسلامي التي زاد البحث العلمي الجاد فيها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة بعد ظهور مشاريع البنوك الإسلامية. ثم حدث تطور نوعي في تناول مقصد حفظ المال عند بعض المعاصرين، وأصبح مفهوماً اقتصادياً يُلزم الدولة بتحقيق التكافل والتعادل والتقريب بين طبقات المجتمع، بالإضافة إلى ما يحفظ أموال الأفراد من الاعتداء والغصب -وهو المفهوم الأساسي. وحفظ النفس وحفظ العرض أيضاً من المصطلحات التي عبَّرت عن تصوُّر لقيم أساسية أعربت عنها كل أجيال المقاصديين. والمصطلحات التي استخدمت في هذا الباب هي: “حفظ النفس” و”مَزْجَرَة قتل النفس” و”حفظ العرض” و”مَزْجَرَة ثلب العرض” و”حفظ النسل” -عند من ضَمَّ حفظ العرض إلى حفظ النسل في التقسيم مثل الجويني والغزالي والشاطبي.
أما المعاصرون، فقد شاع بينهم في معرض الحديث عن حفظ النفس وحفظ العرض مصطلح “حفظ الكرامة البشرية” كنوع من التجديد أو التفسير لهذين المصطلحين. ومفهوم الكرامة البشرية لصيقٌ بمفهوم “حقوق الإنسان” الذي ذكرهُ أيضاً كثير من المعاصرين في تجديدهم لمصطلح المقاصد، وهو تجديد يحاول أن يفعل المقاصد تفعيلاً يمس مشاكل الناس ويتعامل مع واقعهم. إلا إنه من الضروري أن تُحرر مصطلحات حقوق الإنسان بشكل مفصل قبل إدماجها بالمقاصد الشرعية، حتى يُفرَّق بين ما يدعو إليه الإسلام من حقوق للإنسان تتفق فعلاً مع المبادئ (الأساسية) لحقوق الإنسان العالمية، وبين بعض التفسيرات والإلحاقات لهذه الحقوق في بعض المجتمعات، والتي قد تختلف جذرياً مع ثوابت الرؤية الإسلامية. فمفهوم الحرِّية –مثلاً- قد تتعدى فيه حريّة التعبير إلى حريّة الإهانة والسخرية بالناس أو المقدسات، وحريّة اختيار الأزواج إلى حريّة الشذوذ أو الخيانة، وحريّة التصرف إلى حريّة قتل المرء نفسه أو تعاطي المخدرات. وعليه، فالأمر يحتاج إلى تحقيق حتى لا تفسَّر مفاهيم حقوق الإنسان بما يتناقض مع معايير الإسلام وثوابته، وحتى لا يطلق “مقصد حفظ حقوق الإنسان” على عواهنه ويساء استغلاله.
وقد مر حفظ العقل بتطور مماثل على مدار الأجيال، من التركيز على حد الخمر فقط لكونها مُذْهِبَةً للعقل، إلى توسيعِ ذلكَ المفهوم حتى يَشْمَل كل ما يتصل بالعقل من علم وفكر. كتَبَ الدكتور سيف عبد الفتاح يقول: “حفظُ العقل ضرورةٌ من ضرورات العمران .. حفظ العقل من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسيل مخ، وحفظه من كل ما يُذهبه لهو تعبير عن الحفظ الأساسي اللازم لكي يمارس العقل وظيفته وفاعليته”. بل إن مفهوم حفظ الدين، الذي بدأ بدوره معبراً عن “مَزْجَرَةِ خَلْعِ البَيْضَة” بتعبير العامري الذي ارتبط بـ (حد الرِدَّة)، وانتهى بمصطلح “حِفْظ الدين” عند كل العلماء الذين كتبوا عن المقاصد من بعد، بمعنى حفظ العقائد والعبادات وغيرها من أصول الإسلام. ونشهد الآن ما يمكن أن نطلق عليه تحولاً جذرياً في تفسير هذا المفهوم، حيث يعاد تفسير “حفظ الدين” ليشمل كل الديانات بناء على أصل (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وبذلك يتحول حفظ الدين إلى مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية بالمعنى المعاصر، للمسلمين وغير المسلمين، أو “حرية الاعتقادات” على حد تعبير شيخ الزيتونة ابن عاشور. وكل هذه الاجتهادات المقاصدية المعاصرة تحتاج إلى مزيد من البحث حتى تُؤصل علاقاتها بالنصوص الشرعية وترتبط مآلاتها بواقع المسلمين وما يصلحهم في هذا الزمان.
وشاع كذلك في البحث المعاصر تقسيم المقاصد إلي مستويات ثلاثة: عامة وخاصة وجزئية. فالمقاصد العامة هي المعاني التي لوحظت في جميع أحوال التشريع أو في أنواع كثيرة منها، كمقاصد السَّمَاحَة والتَيسير والعدل والحرِّية، كما مر، بل وتشمل المقاصد العامة الضرورات الخمسة المذكورة آنفاً. ثم عرفوا المقاصد الخاصة على أنها مصالح ومعاني لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصِدِ الرَّدْعِ في باب العقوبات، ومقصِد منعِ الغَرَرِ في باب المعاملات المالية، ومقصِد عدمِ الإضرارِ بالمرأةِ في بابِ الأسرة، ومقصِد العفة في باب الزواج، وهكذا. أما المقاصد الجزئية، فهي الحِكَمِ والأسرارِ والأغراضِ التي راعاها الشارع في حكمٍ بعينه متعلِّق بالجزئيات.
ولعلي أضيف -فيما يظهر لي- أن المقاصد منظومةٌ معقدةٌ تعقيد التصور الإنساني نفسه، وأن التجديد فيها لا ينبغي أن يحصر في نسق أوليّ بسيط كالهرم أو الشجرة أو الدائرة، لأن المقاصد أقرب ما تكون لما يعرف بالمنظومة الشبكية المتعددة الأنساق والأبعاد، حسب التعبير المعاصر، أي أنه يمكن النظر إليها من بُعدِ الضروراتِ والحاجياتِ والتحسينياتِ على نَسَقٍ هرميٍ، تحتل فيه الضرورات قاعدة الهرم والحاجيات وسطه والتحسينيات قمته، ويمكن أيضاً النظر إليها من بُعد العامّ والخاص والجزئي على نسق هرمي مقلوب، تحتل فيه الجزئيات أسفل الهرم المقلوب، وتُبنى عليها أبواب الخصوصيات، ثم تُبنى العموميات على الخصوصيات، ويمكن كذلك النظر إليها من بُعد الأسس، على نسق شجري تحتلُّ الأسس فيه موقع الساق من الشجرة والتفاصيل موقع الفروع، كأسُسِ رشيد رضا العشرة أو أسُس القرضاوي السبعة أو أسُس العلواني الثلاثة، وكل ذلك جائز في التصور، وكله عليه من الاستقراء أدلة، ولا يلزم من صحة أحد الأنساق المذكورة بطلان الآخر.
ولكن، هل يعني ذلك أن الشارع عز وجل لم يرتب المقاصد ترتيباً معيناً في نسق تنتظم فيه؟ والجواب أن الترتيب والتنظيم والإبداع في خَلْقِ كل شيء وفي تشريع كل شيء عقيدة نؤمن بها، ولكنَّ إدراكَ المجتهدين لكل أبعادِ هذا الترتيبِ المنتظم -الذي قدْ يكون أعقد بكثير من أنساقِنا الأوليةِ البسيطةِ- أمرٌ آخر. ومثال ذلك الكونُ المرئيُّ، وقد خلقه الباري تعالى يإبداع ونظام وإحكام وتَوَازُن وما له من فطور، وكلُّ مسلمٍ يؤمن بذلك. ولكنَّ محاولاتنا -نحن البشر- لاكتشاف هذا النظام وسَبْرِ أغواره كلَّها ناقصة، وهذا ما تثبته الأيام. فعلى مدار التاريخ، كلَّما تصور علماء الطبيعة نظاماً في مجالٍ ما نتيجة اكتشافٍ ما، جاء بعد ذلك بزمن -طال أم قَصُر- اكتشافٌ آخر ليعلِّمنا أن التصور السابق كان صحيحاً جزئياً فقط، وأنَّ درجةً أعمق من الفهم قد تقتربُ بنا من “حقيقة” النظام الكوني، وما أدراكَ ما حقيقةُ النظام الكوني! ويبدو لي أن المقاصدَ لا تخرج عن هذا المثال.
نعم، لا بُدَّ للمقاصد من حَصْر وهَيكل ونَسَق، ولكنّ ما تصل إليه عقول العلماء من أنساق تصف “المصلحة” بشكل منهجي إنما هو اجتهادٌ يقبل التطور أبداً، ولا يَلْزَمُ أن يكون هو حقيقةَ الشرع كلّها. ثانياً: مراجعات أصولية باعتبار المقاصد انتقد عددٌ من العلماء المعاصرين عِلمَ أصول الفقه في درسه التقليدي نظراً لعدم ارتباطه الواضح بمقاصد الشريعة الإسلامية وأغراضها. فكتب الشيخ عبد الله دراز –مثلاً- في مقدمة شرحه لموافقات الشاطبي أن الفقهاء أغفلوا علم أسرار الشريعة ومقاصدها إغفالاً، “مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جُلبت إلى الأصول من علوم أخرى”. وكتب الشيخ الطاهر بن عاشور يقول إن “معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكِّن العارف بها من … تأييد فروعٍ انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول”.
بل ووصف ابن عاشور الأصوليين عموماً “بالغفلة عن مقاصد الشريعة”. وكتب الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي يقول إن “علماء الأصول من لدى الشافعي لم يكونوا يتجهون إلى بيان مقاصد الشريعة العامة … فكان هذا نقصاً واضحاً في علم أصول الفقه؛ لأن هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه”.
وإذا كان لهذا النقد وأمثاله وجاهة فيما يتعلق بنظريات الأصول المدونة في كتب أصول الفقه، فإنني لا أراه ينطبق على استنباط الأحكام نفسها في مذاهب الفقه الإسلامي، إذ أن اعتبار المقاصد الشرعية في استنباط الأحكام العملية قد اتخذ أسماء مختلفة اتَّفقت في المعنى وإن اختلفت في الألفاظ، مثل اعتبار مناسبة العلة عند الشافعية (وهو المعنى المقاصدي الذي ناطوا به الحكم وجوداً وعدماً)، واعتبار المصلحة أصلاً للاستحسان عند الحنفية (وهو أيضاً معنى مقاصدي يقاس عليه الحكم وإن خالف العلة الظاهرة المنضبطة)، واعتبار “المصلحة” الذي طالما رجع إليه المالكية ومتأخري الحنابلة في فهمهم للنصوص واستنباط الأحكام منها، واعتبار أصول الاستصحاب المختلفة عند من أخذ بها من الظاهرية وغيرهم (وهي كذلك معان مقاصدية يبنون عليها الأحكام)، بل واعتبار معان أخرى نجدها منتشرة عند الفقهاء وإن لم يفردوها بالحديث، كغرض الشارع، وما أراد الشارع، وما تشوّف الشارع إليه، والحكمة، وحتى تعبير المصلحة المرسلة، وهو الذي لا يصح حصر المقاصد الشرعية تحته لأن مصطلح المصلحة المرسلة يُقْصَدُ به مصلحة لا يشهد لها دليل خاص باعتبار ولا بإلغاء، وهذا لا ينطبق على المقاصد التي تشهد لها النصوص بل هي مستقراة من النصوص بنوع من التواتر قد يكون أقوى من الدليل الخاص.
وصاحَبَ النقد المذكور لعلم الأصول محاولات منهجية لتجديد أصولي معاصر عن طريق المقاصد كان من أبرزها توظيف المقاصد في “إخراج النظر الفقهي من الجزئيةِ إلى الكلية”، و”توسيع القياس”، وما شابه ذلك من المصطلحات. وجدير بالذكر أن هذه الأطروحات التجديدية قد بَنَت على ما نبه عليه أئمة الأصول من قديم، من مراعاة للمصالح الكلية في الاجتهاد، وهو ما عبَّر عنه الإمام الجويني مثلاً بالقياس الكلي، وعبَّر عنه الإمام الشاطبي بثبوت القواعد الكلية في مقابل آحاد الجزئيات.
أما في البحث المعاصر، فقد كتب الشيخ يوسف القرضاوي وأفاض في “أهمية الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية”، وفي “التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة”، واقترح الدكتور حسن الترابي ما أسماه “القياس الواسع”، وهو: “أن نتسعَ في القياس على الجزئياتِ، لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جُمْلَتِها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحةً معينةً من مصالحه، ثم نتوخَّى ذلك المقصد حيثما كانت الظروف والحادثات الجديدة، وهذا فِقْهٌ يقرِّبنا من فقه عمر”.
ودعا الدكتور حسن جابر إلى منهج تحكم فيه كليات المقاصد على جزئيات الفقه. وأصّل الشيخ الدكتور طه جابر العلواني لما أسماه بفقه المقاصد الذي: “ينطلق من منهج استقرائي شامل، يحاول الربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام، دلَّت على اعتبار الشرع له الكثير من الأدلة، وتضافرت عليه العديد من الشواهد، وبذلك يُعتبر هذا القانون الكلي مقصِداً من مقاصد الشريعة، فيتحوَّل إلى حاكم على الجزئيات قاض عليها بعد أن كان يستمدُّ وجودَه منها”. ورفض الدكتور محمد سليم العوا تسميةَ تصرُّفاتِ الصحابة -التي نذكر بعضها لاحقاً- تغييراً للأحكام، وفضَّل تسميتها: “اتّباعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في إِدَارةِ الأحكامِ على المَصَالحِ، والعملِ بِها ما أدَّت إلى تحصيلِ مقصودِها”.
وإنني في ضوء هذه الاجتهادات القيّمة، سأقترح في ما يلي وسائل للاجتهاد المقاصدي في مجالين من مجالات استنباط الأحكام الهامة، ألا وهما دلالات النصوص وحل التعارض. دلالة النص بين مدرسة الظاهر ومدرسة التأرخ تقف المناهج المعاصرة موقفين متناقضين من قضية الدلالة، بين الاقتصار على دلالات ألفاظ النصوص وبين إهمال النصوص جميعاً من باب “التأرُّخ”. أما دلالة العبارة –حسب تعبير الأحناف ومن تبعهم- أو دلالة الصريح أو المنطوق –حسب تعبير الشافعية ومن تبعهم- فهي ملزمة للمكلف ما لم يرد نص بتخصيص أو نسخ، على تفصيل في ذلك عند مذاهب الأصول. وأوضح أنواع الألفاظ هو اللفظ المحكم، ثم يليه النص (أو الظاهر)، ثم اللفظ المفسر (ووضوحه حسب ما يفسره).
ولكنّ الاقتصار في استنباط الأحكام على هذه الدلالات المذكورة ووضع اللفظ المفسر (أي الذي يحتاج إلى ما يفسره) في آخر قائمة الألفاظ من حيث وضوحها، حدّ من مدى الاجتهاد والتجديد المتاحين. وصدقت مقولة شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور إن الأصوليين “قَصَرُوا مباحثَهم على ألفاظ الشريعة”. وأما التَّأَرُّخُ فهو مفهومٌ ظهر في اتجاهات “ما بعد الحداثة” الفلسفية، يفصل بين الدال والمدلول عن طريق ربط النصوص المكتوبة أياً كانت كلياً وجزئياً بسياقها التاريخي، وبما يطرأ على هذا السياق من تطور تاريخي. وقد طبق الألسنيون المعاصرون هذا المفهوم لتحقيق ما أسموه “بتفكيك النص”، مقدساً كان أو غير مقدس، أي عن طريق تحليل الإطار الثقافي والتاريخي للألفاظ. وتبعهم في ذلك مسلمون دعَوا إلى مدرسة تَّأرُّخية إسلامية، تسقط وتنهي ما أسموه بسلطة النص. ورأوا أنه لا ينبغي الالتزام بالتفسير التقليدي للنصوص ولا إعادة تفسيرها حسب العصر لأن ذلك عندهم يعزز “الأصولية المبنية على النص”.
بل دعا بعضهم إلى استبدال المفاهيم (التَّأَرُّخيَّة) مثل الجنة والنار والآخرة بمفاهيم الحرية والطبيعة والعقل. (!) وإذا كان لمفهوم التَأَرُّخِ المجرَّد وجاهةٌ من الناحية الفلسفية، فإن الخطأ الذي وقع فيه “المُتَأَرِّخون” هو قياس النصوص والمؤلفات البشرية التي هي فعلاً محصِّلة الثقافات والتصوُّرات المتغيرة، على النص الإلهي الذي يختلف في مصدره ومقاصده عن مصادر ومقاصد البشر. وبالتالي فمفهوم “تأرخ القرآن” لا يتفق -في رأينا- مع الإيمان بقداسة كلام الله ووحيه المباشر إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. ومآلُ هذا المفهوم هو فقدانُ الأمة لمصدرها المعرفي الرئيسي، وسقوطها في شَرَك الانقياد الأعمى لغيرها من الأمم. والمقاصد الشرعية تعزز من مفاهيم العقل والعدل والعلم والحرية (التي ينادي بها الناس جميعاً)، ولكنها لا تضعها في وضع مناقض أو متحدٍّ لمفاهيم الإيمان والعبادة والجنة والنار وغيرها من لوازم الإسلام، وهي لا تُماري في “سلطة النص”، ولكنها تحقق مناط النص في موضعه الصحيح تبعاً لمقصود الشارع الحكيم.
المقاصد الشرعية –إذن- يمكن أن تقدم منهجاً وسطاً في فهم دلالات النصوص يوازن بين الاقتصار على مدلولات الألفاظ وبين تأرّخها. والأمثلة التالية توضح هذا المنهج. أصل في “دلالة المقصد”: حديث (صلاة العصر في بني قريظة) ورد في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي! لم يُرِدْ منا ذلك [أي أنه أراد الإسراع]. فذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلملم يعنِّف واحداً منهم”. وفي رواية مسلم: “وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت”. هذا الحديث الثابت أصلٌ مهم في جواز استنباط مقصِد (جزئي) من نص شرعي بالظن الغالب، بل وجواز إدارة الحكم العملي مع هذا المقصِد المستنبط وإن خالف دلالة الظاهر. فالصحابةُ الذين قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قَصَدَ إلى الإسراع وليس إلى عين الصلاة في بني قريظة، خالَفوا دلالة الظاهر -وهي الأمر الذي يقتضي الوجوب- بصلاتهم في الطريق، والذين أصرُّوا على الصلاة في بني قريظة ولو بعد وقت الفريضة، استمسكوا بحرفية الأمر، ووكلوا القصد منه إلى الله ورسوله.
أما إقرارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل الفريقين، فهو أصلٌ ودليلٌ على جواز الأمرَيْن والمنهجَيْن. وسوف نعتبر “دلالة المقصد” (وهي فرع من “دلالة الغاية” المعروفة) في الأمثلة التالية، احتذاءً بهذا الأصل. دلالة المقصد في: “ليس على المسلم في فرسه صدقة” “روى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول: ابتاع عبد الرحمن بن أمية من رجل من أهل اليمن فرساً أنثى بمائة قلوص، فندم البائع، فلحق عمر فقال: غصبني يعلى وأخوه فرساً لي. فكتب إلى يعلى أن الحق بي، فأتاه فأخبره الخبر، فقال: إن الخيل لتبلغ هذا عندكم! ما علمت أن فرساً يبلغ هذا، فنأخذ عن كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئاً، خذ من كل فرس ديناراً. فقرَّر على الخيل ديناراً ديناراً”. وقد كتب الشيخ القرضاوي في “فقه الزكاة” يقول: “إنَّ الزكاة إنما شُرِعَتْ لسَدِّ حاجة الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل، ولإقامة المصالح العامة للمسلمين كالجهاد في سبيل الله وتأليف القلوب على الإسلام … ومن المستبعد أن يكون الشارع قد قَصَدَ إلقاءَ هذا العبء على مَنْ يَملك خمساً من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسةَ أَوْسُقٍ من الشعير ثم يعفي كبار الرأسماليين”.
ثم قال: “قصة عمر مع يعلى بن أمية لها في نظري أهميةٌ بالغةٌ في باب الزكاة. فقد دلَّ تصرُّف عمر رضي الله عنه على أن للقياس فيها مدخلاً وللاجتهاد مسرحاً، وأنَّ أَخْذَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الزكاة من بعض الأموال لا يمنع مَنْ بَعْدَهُ أن يأخذوها من غيرها مما ماثلها، وأنَّ أيَّ مالٍ خطيرٍ نامٍ يجب أن يكونَ وعاءً للزكاة، وأنَّ المقادير فيما لا نصَّ فيه تخضع للاجتهاد أيضاً. هذا وقد أجاب الجمهور عن هذه القصة بأن ذلك اجتهادٌ من عمر، فلا يكون حجة”. وقد تشدد الظاهرية في عدم اعتبار مقاصد الزكاة المعقولة المعنى وحصروا الزكاة في الأصناف المذكورة في حديث رسول الله فقط ولم يعتبروا غيرها. قال ابن حزم: “لا زكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط، وهي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وماعزها فقط … وفيها جاءت السُنَّة … ولا زكاة في شيء من الثمار ولا من الزرع ولا في غير ما ذكرنا ولا في الخيل ولا في الرقيق ولا في العسل ولا في عروض التجارة.. “.
وعلى هذا، فعمر لم يقتصر على دلالة الظاهر (أو دلالة النص) في الحديث الذي رواه الجماعة “ليس على المسلم في فرسه صدقة”، وهو –بتعبير الأصوليين- لفظ عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء. وإنما فهم عمر رضي الله عنه المقصد الاجتماعي والاقتصادي من الزكاة وسعى لتحقيقه عن طريق المرونة في وعاء الزكاة حسب تغير البيئة وقيم الممتلكات. وهذا الاجتهاد يحقق أيضاً مقصد عالمية الشريعة التي لم تنزل لبيئة العرب وحدها وإنما نزلت لكل زمان ومكان، وهو تجديد منضبط ومطلوب وإلا فوتنا مقاصد الزكاة وتجاوزنا العدل الذي هو عمدة المقاصد العامة والخاصة.
دلالة المقصد في: “من قتل قتيلاً فله سلبه” “عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله، فبلغ سَلَبُه ثلاثين ألفاً. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نُخَمِّسُ السَلَبَ وإنّ سَلَبَ البراء قد بلغ مالاً كثيراً ولا أراني إلا خَمَّسْتُه”.
ولكنّ الفقهاء اختلفوا في تفسير فعل عمر رضي الله عنه، وقد رَصَدَ ابن رشد هذا الخلاف: “قال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة من السلف: واجبٌ للقاتل؛ قال ذلك الإمام أو لم يقله”. ثم علق ابن رشد: “وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال: من قتل قتيلاً فله سلبه، أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النَّفْل أو على جهة الاستحقاق للقاتل”. ولفظ الحديث أيضاً عام لم يخصصه شيء، ومحكم لم ينسخه شيء، وواضح لا يبهمه شيء، ومطلق لا يقيده شيء، حسب تعبير الأصوليين.
ولكنّ عمر رضي الله عنه فهم دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم في إطار مقاصد الإمامة (كما ذكر القرافي في “فروقه” )، فنظر إلى المصالح والمفاسد وليس إلى ظاهر الدليل. فلو لم يخمّس هذا السلَب الكبير لضاع على المسلمين ثرواتٌ كبيرةٌ، ولقصد كل محارب ذوي الأسلاب الكبيرة فقط دون مَنْ سواهم ابتغاء عرض الدنيا، وهو ما يناقض أيضاً المقاصد الشرعية الخاصة بباب الجهاد حسب التقسيم الذي ذكر آنفاً. دلالة المقصد في: “والمؤلفة قلوبهم” روى الجصاص في أحكام القرآن: “جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سَبْخَة، ليس فيها كلأٌ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها. فأقطَعَها إياهما، وكتب لهما عليها كتاباً وأشهد -وليس في القوم عمر- فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما. فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَلَ فمَحَاه، فتذمَّرا وقالا مقالةً سيئة، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفُكُما والإسلام يومئذٍ قليل، وإنَّ الله قد أغنى الإسلام!”. ولكن بعضهم فهم من هذا أن عمر قد “نَسَخَ الحُكْم”. ولكن ابنُ الهمام رَدَّ على القائلين بالنسخ في هذه المسألة بقوله: “العِلَّة للإعزاز، إذْ يُفعل الدَّفْعُ ليحصل الإعزاز، فإنما انتهى ترتُّبُ الحكم -الذي هو الإعزاز- على الدَّفْع- الذي هو العِلَّة. وعن هذا قيل: عدم الدَّفْعِ الآن للمؤلَّفة تقريراً لما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا نَسْخ، لأن الواجب كان الإعزاز، وكان بالدفع، والآن هو في عدم الدفع”.
ورغم تأييدي لرأي ابن الهمام أن دعوى النسخ باطلة (ولا نسخ بعد عصر الرسالة على أي حال)، إلا أن الإعزاز هنا مقصِد وليس علة، حسب التعريف الأصولي للعلَّة بأنها “وصف ظاهر منضبط”، لأن الإعزاز وصفٌ متغيرٌ بتغيُّر الأحوال، وبالتالي فهو غير منضبط. وعلى هذا فعمر رضي الله عنه قد فهم علة النص ودلالة الآية من خلال المقصد، لأنه اعتبر الظروف التي تغيرت، فأصبح تَقَوِّي المسلمين بهؤلاء المؤلَّفين غير مطلوب (في زمانه). المقاصد منهجاً وسطاً في الاستدلال كانت هذه أمثلة ثلاثة تدل على ما ورائها، والمقاصد تقدم منهجاً وسطاً يدور مع متغيِّرات الواقع في بُعْدَيْ الزمان والمكان. كتب الإمام الشاطبي يقول: “الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح.
فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار. وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد. فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقاً: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع”. وبلغة العصر، فإن المنهجَ المقاصِدِيَّ هو المنهج الوسطيّ بين الاقتصار على حرفية الألفاظ وبين أصحاب التأرّخ. حل التعارض بين مسلك النسخ ومسلك تحقيق المقاصد على اختلاف الظروف اتفق المنطقيون والأصوليون والمحدِّثون على تحديد نوعين مختلفين للتعارض، وإن اختلفت مسمياتهم لهما، الأول هو التعارض في نفس الأمر، ويُطلق عليه أيضاً التناقض المنطقي، والتقابل المنطقي، والتعارض الحقيقي، والثاني هو التعارض في نظر المجتهد، أو ذهن العالم، ويطلق عليه أيضاً التعارض الظاهري، والاختلاف. أما التناقض المنطقي في نفس الأمر، فعرَّفه السَّرخسي بقوله: “تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى، كالحلِّ والحرمة، والنفي والإثبات”.
وهذا لا يجوز على النصوص الشرعية، سواء كتاب الله تعالى أو كلام رسوله، إلا ما قد يحدث من تناقض في روايات الحديث، “بما يحصل من خلل بسبب الرواة”، كالذي أخرجه أحمد أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: “إن أبا هريرة يحدّث أن نبي الله كان يقول: إنما الطِيَرة في المرأة والدابة والدار”. فقالت: “والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن كان نبي الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة”. وهذا لا يحتمل إلا صحة إحدى الروايتين وعدم صحة الأخرى.
ولكن هذا النوع من التناقض نادر وأثره في الفقه محدود. أما الغالبية العظمى من حالات التعارض التي لها أثر في الفقه فهي حالات تعارض ظاهري، وهو “ما يبدو لأفهامنا أنه تعارض، مع أنه ليس تعارضاً في الحقيقة”. وتَعامل العلماء مع هذا النوع من التعارض باتباع طرق منهجية، رتبت على هيئة خطوات محددة اختلف العلماء في ترتيبها. وهذه الطرق هي: الجمع، والنسخ، والترجيح، والتوقف، والتساقط، والتخيير. أما ترتيب العمل بهذه الطرق المنهجية فالخلاف فيه متشعب، ولكن ظهر لنا -من استقراء حالات التعارض المتنوعة- أن العمل بالتوقف والإسقاط والتخيير كان نادراً. وأما الأَولى من هذه الطرق، فهو عند العلماء بين الجمع وهو رأي الجمهور، والنسخ وهو رأي الأحناف. ولكن الإحصاء لحالات التعارض في علم مختلف الحديث يظهر أن الجمع كان قليلاً –رغم أولويته نظرياً- وأن الفقهاء استخدموا النسخ في غالب أحوال التعارض، واستخدموا الترجيح أحياناً. ولكن المقاصد الشرعية يمكنها أن تقدم منهجاً للجمع بين المتعارض وإعمال كل النصوص –وهو أولى باتفاق- كما يظهر في ما يلي من الأمثلة. فهم التصرفات النبوية عن طريق ملاحظة المقاصد اشتهرت في كتب الأصول أمثلة لأحكام إباحة لثلاثة أمور اعتُبرت “ناسخة” لما قبلها من أحكام بالنهي تعارضت معها، حسب فهم كثير من الأصوليين، وهي: الانتفاع بلحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، والانتباذ في كل وعاء إلا مسكراً، وزيارة القبور.
وهذه أطراف من روايات الحديث المتعلقة بتلك الأحكام. فقد روى مسلم في باب سماه: ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه إلى متى شاء، يقول صلى الله عليه وسلم: “إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا”. فرأى الجمهور في هذه المسألة تعارضاً بين حكمي التحريم والتحليل، ولذلك قالوا بلزوم النسخ. إلا أن عائشة رضي الله عنها –مثلاً-لم تر في الأمر نسخاً، وأوضحت أن النهي لم يكن للتحريم وإنما كان القصد منه التوسعة ليس إلا، فقالت: “لم يكن حرَّمها، ولكنَّه أراد التوسعة على الدافّة التي قد دفّت عليهم”. وهذا نص صريح على أن النهي الأول لم يكن للتحريم رغم لفظ النهي، وأن قضية مرور ثلاثة أيام ليست هي العلة المقصودة، وإنما العلة كانت سد جوع بعض المسلمين المحتاجين، وهو نفسه مدار الأمر الإلهي المتعلق بالمسألة. قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج: 28). وإذا وسعنا مجال الاستنباط الفقهي ليتجاوز المنطق الثنائي التبسيطي في مذهب النسخ، وتفكرنا في المقصد الشرعي العام لروايات لحوم الأضاحي، لوجدنا في هذه الأحاديث دلالة أن للإمام المسلم صلاحيات -بل واجبات- في اتخاذ تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، مثل حفظ النفوس من ضرر الجوع عن طريق نشر معاني التكافل بين المسلمين، كما في هذا المثال، مع موازنة ذلك بأصل إباحة التملك الحر وانتفاع الناس بما يتمولون على المستوى الفردي. وهذا المسلك في فهم الأحكام الشرعية يقربنا من منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقهي والسياسي، ويساعدنا على توظيف هذه النصوص في بناء المجتمع الإسلامي الذي يوازن بين الحقوق الفردية والمصالح العامة في ضوء من مقاصد الشريعة.
أما قضية التعارض في “الانتباذ”، فقد روى ابن حبان في صحيحه -في باب سَمَّاه “ذكر العِلَّةِ التي من أجلها زُجِر عن الشرب في الحناتم”- عن أبي هريرة قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس عن النبيذ في الدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير، والمزادة المجبوبة، وقال: انبذ في سقائك وأَوْكِه واشربه حلواً طيباً، فقال رجل: يا رسول الله ائذن لي في مثل هذه، وأشار النضر بكفه، فقال: إذاً تجعلها مثل هذه، وأشار النضر بباعه، قال أبو حاتم: قول السائل ائذن لي في مثل هذا أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها، فلم يأذن له النبي مخافة أن يتعدى ذلك باعاً، فيرتقي إلى المسكر، فيشربه”. اعتبر الفقهاء أن “العلة” من التحريم هي الأوعية المذكورة، ولذلك رأوا في الأمر تعارضاً اقتضي القول بالنسخ. أما إذا نظرنا إلى المعنى المقصود لوجدنا أن القوم كانوا يستخدمون هذه الأوعية المخصوصة لصنع ما يُسكر، فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تربية أصحابه بسدِّ ذريعة الشراب المسكر لفترة من الزمان، ثم حين تدربوا على ترك ذلك الشراب المسكر ردّهم إلى الأصل -وهي القاعدة العامة- أن كل مسكر حرام، فالقضية إذن كانت قضية تربوية بسد الذرائع في المقام الأول. أما النهي ثم الإباحة في مسألة زيارة القبور، فقد علق البيضاوي عليه قائلاً: “فزوروها … الفاء متعلق بمحذوف أي: نهيتكم عن زيارتها مباهاة بالتكاثر فعل الجاهلية، أما الآن فقد جاء الإسلام وهدمت قواعد الشرك، فزوروها فإنها تورث رقة القلب وتذكّر الموت والبِلا”.
فقد كانت قبائل مكة ويثرب على حد سواء تتفاخر بآبائها إلى حد زيارة المقابر للإشارة إلى قبر فلان أو فلان بدلاً من اتخاذها عبرة وعظة. فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفظ الدين –بمعنى العقيدة السليمة- في أمره الأول من عدم زيارة المقابر. ثم إنه أذن لهم في الزيارة -وهو الحكم الأصلي- بعد أن ذهبت نعرات الجاهلية، وأوصاهم بعدة وصايا عند الزيارة كان منها ألا يقولوا هجراً، حتى لا يعودوا إلى مثل قول الجاهلية. وهذه القضية تشبه قضية الانتباذ في قصد التربية بسدّ ذرائع المعصية، والقضيتان تشتركان مع قضية الأضاحي في الدلالة على وجوب اتخاذ الإمام المسلم تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، ليس إلا. وهذه الأمثلة الثلاثة تدل على ما وراءها من التصرفات النبوية الشريفة -على صاحبها الصلاة والسلام- في الأمور السياسية، والاقتصادية، والتربوية، والعسكرية، والصحية، والبيئية، والتي قد تختلف حسب الظروف التي عايشها صلى الله عليه وسلم على مدار مراحل الرسالة المختلفة، وتصل إلينا بالتالي في صورة “نهيٍ بعد إباحة” أو “إباحة بعد نهي”. ولكنَّنا ينبغي أن نفهمها كلَّها في إطارٍ واحد من مقاصد الإمامة في حفظ عقائد الناس وأموالهم ونفوسهم، دون حاجة لمسالك النسخ والترجيح بين نصوص كلها ثابتة محكمة.
إن النصوص الشرعية من كتاب وسنة هي عماد الشريعة، ونسخها وإلغاء تأثيرها إلى الأبد لابد أن يكون منصوصاً عليه صراحة حتى لا يُفتح الباب لإبطال معالم الشريعة بمجرد الرأي، كما حدث قديماً وحديثاً! أضف إلى ذلك أن الآيات والأحاديث التي ادُّعي نسخها قد أُبطل عملها التشريعي، رغم أنها آيات محكمات أو أحاديث بينة ثابتة، أراد الشارع لها أن تعمل في حالات وظروف غير حالات وظروف الآيات التي ادُّعي أنها نسختها. وقد أدى هذا الإبطال لكثير من النصوص الشرعية إلى تقييد قدرة الفقهاء على تغيير الفتاوى اعتماداً على النصوص و-بالتالي- قدرتهم على التعامل مع ما يجدّ من حوادث، وأدى أيضاً إلى تقييد قدرة الأصوليين على استنباط القواعد الكلية والمقاصد العالية من مجموع الجزئيات، وكل ذلك أدى إلى تقليص التجدد والمرونة في الفقه الإسلامي كما أرادها الشارع سبحانه وتعالى. حل التعارض عن طريق اعتبار التنوع المقصود من رحمة الشارع عز وجل أن جعل السماحة والتيسير من مقاصد الشريعة. ومن التيسير والسماحة أن راعى الشارعُ التنوع في المكلفين، فجعل الشريعة عالمية باعتبار بُعد المكان، وخالدة باعتبار بُعد الزمان، وهي بذلك تشمل الناس جميعاً. وقصد الشارع الحكيم كذلك إلى أن تتنوع أشكال وصور الأحكام من أجل استيعاب ذلك التنوع في الناس وبيئاتهم وأزمانهم، بل وتنوع قدراتهم البشرية.
والحق أنه لا دليل على الفرضية المسبقة عند كثير من الفقهاء أن لكل حكم وكل عبادة صيغة واحدة لا تتنوع، ولو قصرت أفهامنا عن الوصول لحكمة هذا التنوع على التفصيل، مما أدّى بهم إلى ضروب من توهم التعارض في كثير من الأحوال وضروب من التناسخ والترجيح غير المنهجي بين نصوص كلها محكمة ثابتة سنداً ومتناً. ومثال ذلك مسألة رفع اليدين في الصلاة، التي اشتهرت فيها مناظرة الإمامين أبي حنيفة والأوزاعي، حين قال الأوزاعي: “أُحدِّثك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وتقول حدثني حماد عن إبراهيم؟” فرد أبو حنيفة: “كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمةَ ليس بدونٍ من ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر فضل الصحبة فالأسود له فضل كثير، وعبدالله عبدالله” – هذا رغم أن الحديثين موضع الخلاف صحيحان في أعلى درجات الصحيح سنداً ومتناً، ولا داعي “للانتصار لأحد المذهبين”، كما ذُكر. وكالذي ورد في روايات التشهد المختلفة، وتوقيت سجود السهو، وصيغ التكبير في صلاة العيد، وصيغ صلاة الخوف، وما كان على الخيار في الكفارات، ككفارة الجماع في نهار رمضان، وغيرها من الأحكام.
ومن مقتضيات مقصد السماحة الذي يقتضي اعتبار التنوع أن يُعتَبَر حال المكلف بالحكم، من حيث قوته أو ضعفه، وشبابه أو هرمه، وغناه أو فقره، وأمن الفتنة منه من عدمها، وهكذا. ومثال ذلك حكم حضانة الأم إذا تزوجت، الذي ألحق بالمتعارض نظراً لاختلاف الروايات فيه، وأدى إلى ضروب من الترجيح للانتصار لأحد الرأيين، رغم أن المسألة مدارها -كما يرى كثير من العلماء- على “مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قُدمت عليه … وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا”. وكالتعارض في حكم الأضحية بين الوجوب وعدمه، رغم أنَّ الأوزاعي وأبا حنيفة واللَّيث ذهبوا إلى أن الأضحية واجبة على الموسر فقط، وهو رأي يعمل الروايات الصحيحة كلَّها عن طريق مراعاة حال المخاطب بالحديث وهي مراعاة مقصودة لتنوع الناس وإمكاناتهم. وقس على ذلك. حل التعارض عن طريق اعتبار التدرج المقصود من سنن الله تعالى في الفطرة البشرية صعوبة التغيُّر، خاصة فيما يتعوده الإنسان. والصحابة رضي الله عنهم كانوا قد تعوّدوا قبل الإسلام عادات قد صارت جزءً من حياتهم. فلمّا جاء الإسلام بآداب وأحكام تتناقض مع بعض هذه العادات كان من رحمة الله تعالى ومن حكمة رسوله صلى الله عليه وسلم التدرج في تطبيق هذه الأحكام، وكان هذا التدرج من المقاصد والسمات العامة في عهد الرسالة. ومثال ذلك ما حدث من تدرج في تحريم الخمر والربا على مراحل بدأت جزئية وانتهت إلى الاجتناب التام، والصلاة مرتين ثم خمس مرات، وصيام بضعة أيام في العام ثم فرض صيام رمضان كله، وإباحة التكلم في الصلاة ثم تحريمه.
وتسمية مراحل التطبيق “أحكام منسوخة” تسمية غير دقيقة. فلم يكن هناك أبداً “حكم شرعي” يبيح الخمر في الليل أو الربا غير المضاعف، وإنما حكم الخمر والربا واحد في دين الله وهو التحريم، ولكن التطبيق كان تدريجياً. كما أن تسمية مراحل التطبيق أحكاماً منسوخة أو ملغاة يقتضي عدم جواز إعمالها بحال.