يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:

“مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ. ومَتى أطْلَقَ لِسانَكَ بِالطَّلَبِ فَاعْلَمْ أنَّهُ يُريدُ أنْ يُعْطِيَكَ.”

وهذا مثال آخر خاص بالفهم عن الله تعالى في عطائه ومنعه، يعلمنا إياه الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله ورضى عنه. يقول: (متى أوحشك من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به)، فأحيانًا يأتي البلاء في صورة أن يستوحش الإنسان أي ينعزل وينفرد، مثلاً بأن يأخذ الله عز وجل الرفيق، كالصاحب أو الزوج أو الأخ أو الصديق، أو أن يسافر العبد لظرف ما ويبقى وحده في مكان بعيد أو بلد غريب، أو تجد نفسك فجأة وحدك في سجن أو مستشفى، لا قدر الله.

يبين الشيخ أن هذا قد يكون من العطاء في صورة المنع، وهذا أيضا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (إذا أراد الله بعبد خيراً أوحشه من الناس). فيفتح الله لك في هذه الوحدة باب الذكر أو باب التفكر أو باب الأنس به، وهذا الأنس لم يكن ليأتي وأنت تختلط بالناس ليل نهار، فيفتح لك سبحانه وتعالى هذا الباب بأن يحبسك في مكان ما، ولعلك تظن أن هذا من المنع وإنما هو من العطاء، أوسع عطاء.

ومن أساتذتي من يذكر فترات من حياته كان فيها في السجن أو في منفى، يذكرها بالخير ويقول: (لولا ذلك السجن لما ألّفت كتبي ولا وصلت إلى أفكاري). فكان السجن والوحشة في الحقيقة سبباً للأنس بالله والنفع للخلق.

ثم يقول الشيخ: (ومتى سألت فأعلم أنه يريد أن يعطيك)، أي قد يبتليك الله عز وجل بلاء لا ترى له حلاً إلا أن تسأل وتدعو، فلعلك مقصّر لا تسأل ولا تدعو كثيرًا قبل هذا البلاء، ولعلك تتوهم أنك لا تحتاج إلى الدعاء، أو تدعو ولكن لا تكون مضطراً. فأحيانًا يجد الإنسان نفسه مضطراً، ويجد الإنسان نفسه في ضيق لا ملاذ له ولا كاشف له إلا الله، وأخيراً يدعو ويسأل الله عز وجل. {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه}.

ولعل هذا السؤال يستمر أياماً أو أسابيع، ويكون هذا من العطاء وليس من المنع، لأن (الدعاء مخ العبادة)، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: (الدعاء هو العبادة)، فتظل في عبادة صادقة وصلة دائمة بالمولى عز وجل، ويكون هذا هو عين العطاء وليس من المنع في شئ.

ولكن، يقول الشيخ: (إن فتح لك باب السؤال فأعلم أنه يريد أن يعطيك)، فالله عز وجل يثيب على السؤال في حد ذاته، ويعطي كذلك ويجيب السؤال كذلك في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة معاً، أو في شيء آخر أفضل في الدنيا أو في الآخرة؛ فالله عز وجل حين يفتح لنا باب الدعاء فإنه سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا، لأن العبد الكريم إذا سُئل لابد أن يعطي، فما بالك بالله!

وأحيانًا ما يضيّق الله عز وجل عليك الرزق، ويريد منك أن تتوب، ليس إلا. {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولاهم يذّكرون}، {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}. فالله عز وجل أحيانًا يأخذك ببعض البلاء وبعض الضرر حتى تتوب إليه، وتستكين، وتدعوه وأنت تحس بالاضطرار، وهذا أيضاً من صور المنع الذي هو في حقيقته عطاء، فالبلاء والفتنة اللذان ينتهيان إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى هما نعمة حقيقية.

والمنع والعطاء لا يقاسان بمقاييس البشر، فلن تكون المقاييس الصحيحة هي مقاييس الأرقام ومقاييس اللذّات المادية، وإنما المقياس الحقيقي هو علاقتك بالله. فأحيانًا يبتليك الله ابتلاء فتتحسن العلاقة معه سبحانه وتعالى، وهذا هو عين العطاء، وأحيانًا لا تأتي منح من الله تعالى إلا عن هذا الطريق، لأنني مثلاً قصّرت في حق الشكر أو حق العبادة، فالله تبارك وتعالى يأخذ من مليارات النعم التي أعطاني إياها يأخذ مني نعمة أو اثنتين أو ثلاثة، وقد أجزع، ولكنني أعود إليه سبحانه وتعالى، وهذه هي المنحة أي منحة، وعطاء أي عطاء!