يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:

“لَيْسَ المُتَواضِعُ الَّذي إذا تَواضَعَ رَأى أنَّهُ فَوْقَ ما صَنَعَ. وَلكِنَّ المُتَواضِعَ الَّذي إذا تَواضَعَ رَأى أنَّهُ دُونَ ما صَنَعَ.”

التواضع خلق أساسي من أخلاق السائرين إلى الله وخصلة لابد للعبد أن يحرص عليها ويراقب نفسه خوفاً من أن ضيّعها. وعكس التواضع الكبر، وهو عيب جدّ خطير. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذره من كبر)،

ثم فصّل فقال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس). وبطر الحق إنكاره، وغمط الناس احتقارهم.

قال الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. وقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

وغمط الناس واحتقارهم تعني إنك إن تبسطت مع (فلان) ورأيت –حاشا لله- أنك فوق (فلان) فهذا هو عين الكبر وليس من التواضع في شئ. رغم أن هذا التبسط شكليا يظهر للناس أنه تواضع، لكن التواضع لابد أن يأتي من القلب، ويعني أن تتبسط مع (فلان) وترى أنك أقل منه حقاً، وربما أقل من كل الناس.

والسؤال: كيف أشعر بذلك؟ والجواب: بالنظر إلى معيار الدين وليس إلى أي معيار آخر، هو قد يكون أقل اجتماعياً أو مادياً أو بأي اعتبار من الاعتبارات التي تقاس في دنيا الناس. لكن ينبغي أن أقول لنفسي: لعله أقرب إلى الله سبحانه وتعالى مني، وهذا ما لا يعلمه أحد إلا الله! لعله إنسان أحكم أخلاقاً وأزيد إيماناً وأكثر جهاداً لنفسه وللناس، ولعله مبتلى بأشياء وهو يصبر عليها، فلعله أفضل مني بما لا يقارن من الدرجات عند الله.

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع. قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال إن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا).

فالتقييم الأول هنا كان بناء على معايير مادية و(أشكال نمطية)، كما نقول بلغة العصر. والتقييم الحقيقي الصحيح، وهو تقييم الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يعتبر شيئاً إلا معيار الدين. والرجل الثاني بمعيار الدين أفضل من مليارات من مثل الرجل الأول!

ولذلك فالتواضع أن يرى العبد أنه أقل من الناس حقيقة وصدقاً، لأن العبرة بالتقوى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وهي معيار لا يعلمه إلا الله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.

إذن، ليس المتواضع كما يقول الشيخ: الذي إذا تواضع رأي أنه فوق ما صنع، ولكن المتواضع الذي إذا تواضع رأي أنه دون ما صنع.

وننظر إلى مثاله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو، لكن الله عز وجل أمره فقال: {واخفض جناحك للمؤمنين}، وخفض الجناح هذا مثل قوله تعالى في حق الوالدين: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، وهذا من أعلى درجات التواضع. والنبي صلى الله عليه وسلم كان هيناً ليناً، وفي الحديث أنه كانت تأخذه الجارية فتذهب به في المدينة حيث شاءت، أي طفلة صغيرة تذهب لتسأله عن شيء أو تريه شيء فيذهب معها صلى الله عليه وسلم. وكان إذا مر ببعض الصبية يبدأهم صلى الله عليه وسلم بالسلام. هذا هو التواضع.

وأمره ربه تعالى بقوله: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}، وهذه كلها من صفات المتواضعين، فالمتواضع يعفو عن الناس، ويدعو للناس، ويشاور الناس. والذي يحسّ أنه لا يحتاج إلى مشورة الناس، ولا يحتاج إلى أن يتعلم لأنه يعرف كل شيء ويفهم كل شئ، فليس بمتواضع، بل هو إنسان متكبر، والعياذ بالله.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان من تواضعه أحياناً أن يغير رأيه بناء على المشورة، وهذا في الأمور الدنيوية لا في أمور الوحي طبعًا، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يشاور، وكان الصحابي يتجرأ أن يقول له: (ليس هذا بمنزل)، أي هذا رأي غير سليم، لابد أن ننزل بعد بئر الماء، أو نحفر خندق، أو غير ذلك.

والله عز وجل خلقنا كلنا سواء وجعل بعضنا فوق بعض درجات في مسائل العقل والوظائف والمال والصحة والجاه، ولكن هذه المسائل لا ينبغي أن تؤدي إلى الكبر في القلب وإنما تؤدي إلى شكر نعم الله علينا عز وجل. فليس المتواضع الذي يتواضع شكلاً أو يجلس مع هذا أو يتكلم بكذا وهو يرى أنه فوق ما يصنع! وإنما المتواضع لابد أن يرى في قلبه أنه أقل من الناس، وأنه يحتاج إلى الناس، وآرائهم، ودعائهم.