من المهم قبل أن نتحدث عما ينبغي أن نرجع فيه إلى “المبادئ الكلية” –كما ورد في “وثيقة الأزهر” مثلاً، وغيرها من الوثائق والأطروحات التأسيسية الهامة في هذه المرحلة-، ومن المهم أن نجيب عن السؤال التالي: ما هي “مبادئ الشريعة الإسلامية”؟ وما علاقتها بالأحكام الفقهية المختلفة؟ وما مدى حجيتها وثبوتها؟ وهل يعني الرجوع إليها “مصدراً أساسياً للتشريع” أننا بالضرورة نعود إلى تفاصيل الشريعة في أي مسألة؟

الاسم العلمي لمبادئ الشريعة وكلياتها وأهدافها هو مقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة هي الغايات والمصالح والمعاني والأهداف والأسباب (على تفصيل في مفاهيم هذه المصطلحات المتقاربة) التي أتت الشريعة لتحقيقها في دنيا الناس. والأساس الفلسفي الذي بنيت عليه هذه المقاصد هو أن الله عز وجل لا يفعل شيئاً عبثاً، وهو قد منّ علينا بإرسال الرسول –صلى الله عليه وسلم– وإنزال هذه الشريعة (بمعنى ما نزل به الوحي من الله)، وهذا لم يكن عبثاً ولكنه لتحقيق مصالح وغايات ومعاني معينة. من هذه المعاني على سبيل المثال العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، واللام في “ليقوم” هي “لام السببية”، وبالتالي فالعدل مقصود رئيس من مقاصد إرسال الرسل وإنزال الكتب، ومن مقاصد الشريعة بالإضافة إلى مقاصد أخرى ذكرها العلماء في نظرياتهم المختلفة،وهذا العدل هو الذي إذا مات إنسان في سبيل تحقيقه فهو شهيد، كما مرّ.

والمقاصد والمبادئ بهذا المعنى هي من الفقه والفهم للشريعة وليست هي الشريعة ذاتها وإنما هي نظرية وفهم عميق ومهم لهذه الشريعة. وهذا الفقه له نظريات متعددة لا يتسع المقام هنا لتفصيلها، ولكننا سوف نلقي الضوء هنا على بعض التقسيمات الأساسية، ألا وهي التي تتعلق بما يسمى الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات.

أما الضرورات، فمعناها مسائل الحياة والموت، فالشيء الضروري هو الذي يتوقف عليه بقاء الناس أو هلاكهم. وأما الحاجيات، فهي تأتي بعد الضرورات وتشمل كل ما يحتاجه الناس مما لا يدخل تحت مسائل الحياة أو الموت، فهي حاجات استهلاكية لكنها مطلوبة ومهمة. والقسم الثالث هو التحسيني أي الكمالي أو المسائل الاستهلاكية الغير أساسية أو ضرورية. ودرجات المصالح هذه كلها مما أتت الشريعة لتحقيقه في دنيا الناس واستهدفت توفيرها على مستويات مختلفة.

وأما الضرورات فقد قال العلماء في هذا المجال على أن الضرورات الشرعية هي “حفظ” التالي: (1) الدين و(2) النفس و(3) العقل و(4) النسل و(5) العرض و(6) المال، على خلاف في بعض تفاصيل الترتيب والمصطلحات. والإمام الغزالي له كلام جميل، مفاده أن الحفظ هذا له جانب إيجابي وجانب سلبي: الجانب السلبي هو الحفاظ على المصلحة من النقص والتضييع، والجانب الإيجابي هو الحفظ من باب التنمية والتزكية، وينبغي مراعاة الجانبين في التطبيق والتفعيل.